القائمة الرئيسية

الصفحات

إلى الّذين منعوا دفن موتى وباء "كورونا"
خذوا درسا من الغراب

قال الله تعالى: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ( [المائدة: 31]
لا بدّ من كلمة عن التّصرّف الّذي أتاه مجموعة من مواطنينا، الّذين اعترضوا على دفن موتى وباء "كرونا" في المقابر العامّة، نقول لهم:
ـ ماذا كنتم تظنّون، أو ماذا كنتم تريدون، أن يُفعل بموتى المسلمين بسبب وباء "كرونا"، أن يُلقَوا إلى الكلاب، أم يرموا في البحر، أم يُحرقوا، وربما في أسوأ الحالات عندكم أن يدفنوا بعيدا في الفيافي والقفار، وتُعمَّى آثار قبورهم؟ هل كان هذا قصدكم؟ فمن أيّ طينة أنتم؟ أَمِنْ طينةٍ لا تؤمن بكرامة الإنسان حيّا وميّتا، ولا ترى فيه إلاّ رقما لكائن حيوانيّ مادّي استنفذ وقته فوق الأرض، ومن طينة لا تشعر بلوعة الفراق الّتي يجدها أهاليهم بموتهم؟ وهل إنّ موقفكم سيكون نفسه لو كان الميّت أبا لكم أو أمّا أو ابنا أو زوجة؟
إنّي لا أكاد أصدّق ما تعلّلوا به من خوف العدوى، فهل هم بمأمن من أن تخطئهم العدوى؟ لكنّها لوثة الثقافة الّتي حقّرت الإنسان، وأذلّته، وحوّلته إلى بضاعة يُتاجر بها، وأنزلته عن عرش التّفضيل الّذي حظي به من لدن خالقه على كثير ممّن خلق، هذه الثقافة قد غزت أمّتنا، وتربّى عليها أجيال، نجد آثارها في مثل هذا الموقف، في عصر يملك الإنسان من المعارف الّتي تمكّنه من الاحتياط من كلّ وسائل العدوى.
ـ لقد علّم الله تعالى الإنسان كيف يتعامل مع موتى بني جنسه بالصّورة اللاّئقة به، وهو الكائن الّذي كرّمه وأسجد له الملائكة، وفضّله على كثير ممّن خلق، واستخلفه في الأرض، قال الله تعالى: (ولقد كرّمنا بني آدم)[الإسراء: 70]؛ ليكون شاهدا على ألوهية الخالق سبحانه، ومقرّا بعبوديته له، قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذّاريات: 56].
ـ لقد ألهم الله تعالى غرابا ـ نكرة ـ أن يعطي لابن آدم الأوّل ولبني آدم من بعده جميعا، دروسا في كيفية تعامل الإنسان مع موتى بني جنسه، حين قتل هذا الغراب غرابا آخر أو وجده ميتا، فجعل يحفر في الأرض، ثمّ دفنه وغّطّاه بالتّراب.
فكان من هذا دروس عظيمة:
• أن يَدفِن الإنسانُ الميّتَ من بني جنسه في الأرض؛ لأنّه المكان الأجدر بمنزلته من بين سائر الخلق، قال الله تعالى: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى)[...]، فلا يحرقه، ولا يلقي به في البحر، ولا يتركه للسّباع.
• أن يتولّى الإنسان بنفسه مهمّة الدّفن، إجلالا وتعظيما لقدرة الله تعالى الّذي سوّى خلقته، قال تعالى: (الّذي خلقك فسوّاك فعدلك في أيّ صورة ما شاء ركّبك)[الإنفطار: 7]، وقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين سئل عن وقوفه لجنازة يهوديّ: "أليست نفسا"[البخاري ومسلم].
هكذا تقول الفطرة الإنسانية السّوية، لا الملوّثة بما طلع به علينا جهلة من المواطنين، بمنع دفن موتى وباء "كورونا"، ولا ندري ماذا قصدهم حقيقة.
يقوم الإنسان بذلك مع الميت مهما كانت أسباب الموت، ولو لقاتل نفسه، فما بلكم بمن له أجر الشّهيد كالميّت بسبب الوباء، والبشر الآن لا يفتقرون إلى كيفية أخذ الاحتياط من عدوى الميّت إن كان به مرض، وخاصّة بعد أن أعلنت منظمة الصحة العالمية من عدم نقل العدوى من الميت بعد دفنه إذا أخذت الاحتياطات اللاّزمة.
وما زادته شريعة الإسلام المباركة، في تدبير شؤون الميت، يزيدنا افتخارا بما كرّسته من احترام الإنسان حيّا وميّتا، فإن كان مسلما فأوجب إقباره وحرّمت حرقه كما يفعله بعض الشعوب، أو تركه للسباع كما كان يفعله العرب، قال الله تعالى: (ثمّ أماته فأقبره)[عبس]، ومعنى إقبار الإنسان: أمر أن يُقبر أو جعله من ذوي قبور، لا ممّا يلقى للسباع والطيور الجارحة [التحرير والتنوير: 30/124]، وأمرت بتغسيله، وتزيينه بكفن، وحمل نعشه على الأكتاف، ثمّ الصّلاة عليه، وذلك في الظروف العادية إن أمكن، ويسقط ذلك في ظروف الأوبئة ونحوها، إلاّ الصّلاة فلا تسقط، فتؤدّى ولو من مسافة، أو غائبا، ولو بفرد واحد، وكان له أجر الشهيد مقابل ذلك الحرمان من التغسيل والتكفين مثله مثل شهيد المعترك.
وزادت الشريعة المباركة فأمرت بدفن المسلمين في مقابر خاصّة بهم، ووضع علامة على القبور ليعرف أصحابها، وحرّمت نبشها والتبوّل ووضع الفضلات عليها، كلّ ذلك تعظيما للموت، واحتراما للموتى.
ثمّ شرعت زيارة المقابر لأغراض عديدة: وفاء للأموات، وتوثيقا لصلة الأجيال فيما بينها، وتذكيرا للأحياء بالموت.
فليت بني قومنا يتّعظون بدروس الغراب، إن لم يتّعظوا بدروس الشرع الحنيف.


L’image contient peut-être : ‎texte qui dit ’‎8 مسائل في وباء "كورونا" إلى منعوا عفن موتى وباء خذوا عرسا من الغراب بن طاهر‎’‎

تعليقات

التنقل السريع