القائمة الرئيسية

الصفحات

الاستعداد لشهر رمضان المعظم

 


لشيخ الإسلام المالكي ، العلامة محمد الطاهر بن عاشور :


لا يخفى أنَّهُ عمّا قريبٍ يتأهَّبُ المسلمونَ لشهر رمضانَ تأهُّبًا يحُفُّه شُكرٌ ربَّانيٌّ واعتزازٌ نفسانيٌّ، لأنَّ في مثله من سنة ثلاث عشرة قبل الهجرة بَعَثَ اللهُ محمدًا –صلّى الله عليه وسلَّم– رسولًا إلى النَّاس كافَّة، مُرشدًا وهاديًا، ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ وابتدأَ فيه بنزول القرآن.


اختارَ اللهُ مثلَ هذا الشَّهر في تلك السَّنَةِ لانبثاق ذلك النُّور المبين، وحُدوث الحادث الجليل الَّذي أصلح نظام الاجتماع والتفكيرَ، فقدَّر لَهُ بذلكَ فضلًا عَلِمَهُ وأرادَهُ وادَّخره إلى أنْ ربط به ذكرى جليلةً للمُسلِمين في السَّنَة الثَّانيَّة من الهجرة حين بدأَ استقلالُ المسلمين بمدينتِهم وجماعتِهم، وتخلَّصوا منْ اضطهادِ المشرِكين وشغبَهم.


ذلك بأنْ شرعَ لهم في ذلك الشَّهر فريضةَ الصَّوم كلَّ عامٍ عبادةً يرتقون بها عن حضيض عالم المادَّة إلى جانب أَوَجِّ العالَم الرُّوحاني، فجعلَ الصَّوم وسيلةً للاِرْتِيَاضِ بالأخلاق المَلَكِيَّة، والتَّهذيب منَ الكُدرات الجِسْمَانِيَّة، ونبَّه على ذلك بأنْ أعقبَ آية فَرْضِ الصِّيامِ بقوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى والفُرْقَانِ﴾ يُشيرُ إلى مناسبة تعيين هذا الشَّهر لإقامة هذه العبادة.


إنّ عد الصَّوم في قواعدِ الإسلامِ وما فيه من الحكمة الرَّاجعة إلى تزكية النَّفس وتهذيبِ طُغيان القِوَى الجُسْمَانِيَّةِ عليها أمرٌ مُقرَّرٌ لا يُنكَرُ، فلَسْنا بحاجةٍ إلى زيادة تذكيرٍ المسلِمين بِهِ. بلِ الأمرُ الَّذي هو شديدُ الحاجةِ إلى التَّذكير بِهِ والتَّنبيه عليهِ هُوَ: إرشادُ الكثير منهم إلى الأحوال التي يكونُ بها الصَّوم جاريًا على المقصد الشّرعيّ منهُ، ومنْ قيامِ المُسلِم بهِ. 


الصِّيامُ عبادةٌ شُرِعَت لمقاصدَ سامِيَةٍ، وحِكَمٍ عاليَةٍ، هي منْ قبيل الحِكمة العمليَّة لرياضة النَّفس على اِسْتِذْلَالِ المَصَاعِبِ والتَّصبُّرِ على التَّخلُّق بالأخلاق المَلَكِيَّة، وقِوَامُهُ الإمساك عن الشَّهوات المُلازمة لما في الهيكل الجِسْمانيِّ من المادِّة التي تَغِينُ على تجرُّد الرُّوح، فالقصدُ منهُ إضعافُ القُوَى المادِّيَّة لِتَنْبَثِقَ منْ منافذها أشعَّةُ النَّير الرُّوحاني. 


ولِأجل ما في هذا الإمساك من المشقَّة في مُجاهدة تلك القُوى الطَّاغية اِقتنعَت الشَّريعةُ بالمقدار الذي لا يخلو عنه قيام ماهية هذه العبادة، فجعلت ما يعرض للصَّائم منْ مشاق زائدةٍ عُذرًا يُخوِّل التَّرخيص في ترك تلكَ العِبادة مادامت المشقَّة العارضةُ مُقارنةً لها لِيَأتي المسلمُ بعبادته شارهًا نشيطًا غير ملولٍ منْ تظافُر المشاقِّ عليه ؛ وقد أشارَ إلى ذلك قولُه تعالى في آية فرض الصِّيام: ﴿وَمَنْ كَان مَرِيضًا َأَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾. (البقرة/185)


المصدر : 

فتاوي الامام الطاهر بن عاشور

فتاوي علماء البلاد التونسية في القرن الرابع عشر هجري




تعليقات

التنقل السريع