القائمة الرئيسية

الصفحات

ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر خاصة بهذه الأمة المحمدية

 هل ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر خاصة بهذه الأمة المحمدية، وهل تنتقل في السنة كلها أم لا، وما وجه قيام الناس في رمضان بإحياء الليالي الأوتار من العشر الأواخر كلها فهل لذلك أصل، وماهو المرجّح من حيث الدليل عليه؟

الجواب:
إنّ ليلة القدر قد حكى عنها الحافظ ابن حجر في فتح الباري أقوالا كثيرة تنتهي إلى 48 قولا، ولكنّها عند التمحيص بالغربلة الفنّية لا يستقيم الدليل الذي له وجه من النّظر في الجملة لعُشرِها، وتتبع ذلك يطول، ويعلمه من له إلمام بصنعتي الحديث والأصول.
وبوجه الاختصار، إنّ كلّ قول بكونها تدور في السّنة، أو تقع خارج رمضان، مناقض في نظر ظاهر القرآن، قال الله عز وجل: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)، وقال: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)، فالأولى نصّت على أنّ القرءان أنزل ليلة القدر، والثانية نصّت على أنّ القرآن أنزل في رمضان، وبضمّ مدلوليْهما ينتج أنّ ليلة القدر في رمضان، ولم يبق التفات إلى كلّ ما يخالف ذلك من الأقوال، واسترحنا من هوسه، ولا سيما عند المالكية الّذين من أصول مذهبهم تقديم ظاهر القرآن حتى على الحديث الصحيح الصريح.
إنّ هذا الدّليل وان لم أقف الآن على من نصّ عليه، فَسَلَفِي فيه عليّ كرّم الله وجهه الّذي ركّب آيتين وهما: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ)، و(وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) فاستنتج منهما أنّ أقلّ الحمل ستّة أشهر، ويسمّيه الأصوليون دلالة الاقتران، وهو استخراج مدلولٌ من مجموع دليلين لا يستقلّ به واحد منهما. فإن قلت: إنّ القرآن تكلّم على فرد من كلّي، وهو ليلة معيّنة نزل فيها القرآن، وكلامنا في اللّيالي بعدها؟ الجواب: أنّ بمثل هذه الأبحاث الفارغة والفلسفلة البيزانطية ضخّم الفقه وصعب فانتشر الجهل، وإنّ تخصيص الآية بليلة معيّنة، وقَصْر الفضل عليها لا بدّ له من مُخصَص، وإنّ الأصل أنّ ما جرى على تلك الليلة يجري على غيرها قياسًا أو نصًا، ولو عملنا بهذه الفلسفة لما وجب صيام غير ذلك الرمضان المعيّن.
ثمّ إنّا تصفّحنا أحاديث الصحيحين اللّذين هما عمدة الدّين، فوجدناها دائرة على أنّ ليلة القدر تلتمس في العشر الأواخر من رمضان، ولم نجد بهما حديثا مرفوعا مصرحا بأنّها في غيرها، وذلك كاف في ضعف ما سوى ذلك من أقوال.


منها: حديث أبيّ بن كعب في "مسلم" أنّها ليلة سبع وعشرين، ولكن بتأمله يظهر أنّ القدر المرفوع منه: أنّه صلّى الله عليه وسلم وقع له تعيينها ليلة سبع وعشرين، والسياق يدلّ أنّ ذلك كان في سنة من السنين، وليس هو دائما في كل سنة، ولا في المرفوع من الحديث ما يدلّ له، وإن فهمه الراوي.
ومنها: حديث عبد الله بن أنيس في "مسلم" أنّها ليلة ثلاث وعشرين.
ومنها: حديث أبي سعيد الخدري في "الصحيحين" أنّها ليلة إحدى وعشرين.
ثمّ إنّ حديث أبيّ بن كعب جعل لها علامة، وهي طلوع الشّمس بيضاء نقيّة، وحديثا ابن أنيس وأبي سعيد جعلا علامتها نزول المطر، وهاتان العلامتان لا يمكن عادة اطّرادهما في كلّ ليلة سبع وعشرين، وإحدى وعشرين، وثلاثة وعشرين، إذ ظهور قرص الشّمس دون غيم، ونزول المطر، قد يكون في تلك اللّيالي وقد لا يكون، لتبدّل الفصول في السّنة القمرية، مع اختلاف الأقطار والشريعة عامة، فادّعاء اطّرادهما يخالف المحسوس، ويردّه المعقول. وليلة القدر لا بدّ منها كلّ سنة، وذلك كاف في خطإ من عيّنها في واحدة من الليالي الثلاث، خاصة بها كلّ سنة، ووجب علينا عدم تقليد ذلك الاجتهاد، والاقتصار على القدر المرفوع من الأحاديث الثلاثة، وأنّها وقعت معيّنة زمن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في سنة بسبع وعشرين، وجعلت لها تلك السّنة علامة خاصّة لتلك السّنة بوحي منامي أو غيره، كما وقعت سنة أخرى في ليلة ثلاث وعشرين، وفي أخرى في ليلة إحدى وعشرين، وجعلت لهما علامة خاصّة بالسنتين وهي المطر، ولا يلزم اطّراد ذلك كلّ سنة.
ثم نظرنا في "الصحيحين" فوجدنا في بعضهما أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم اعتكف في العشر الأُوّل راجيا مصادفتها، ثمّ اعتكف في العشر الثانية، فقيل له: إن الّذي تطلبه أمامك، فاعتكف في العشر الثالثة، وكان ذلك آخر ما عمل، فعلمنا أنّها فيها وأنّها تنتقل فيها خاصة.
كما أنّنا وجدنا في "الصّحيح": أرقبوها في العشر الأواخر في الوتر، فقلنا إنها في الوتر أرجى من الشفع، وإن ورد في "الصحيح" ما يدلّ على أنّها تكون في ليلة أربع وعشرين، ووجدنا أبا سعيد فسّر حديثه في بعض روايات "مسلم" بما يقتضي أنّها ليلة اثنتين وعشرين، وذلك كلّه لا يخرجها عن العشر الأواخر.
فبهذا عندي، يمكن الجمع بين الأحاديث الصحيحة كلّها، وإلغاء ما سواها، وفكّ المعضلة، وينعدم الخلاف الذي هو شرّ على الدين.
أمّا حصرها في العشر فتخفيف من الشّارع ورأفة بالضعفاء، ومن لا يقدر على إحياء السّنة كلّها، إذ لو كانت تدور فيها لما حصل إدراكها إلاّ بقيام ثلامائة ليلة ونيف وخمسين، على أنّ بعض اللّيالي قد نهينا عن قيامها، ولن يشادّ الدين أحد إلاّ غلبه. وقد خاطب النّبيّ صلّى الله عليه وسلم الفقهاء بقوله: إنما بعثتم ميسّرين، وبهذا تبين مستند إحياء اللّيالي الأوتار الخمس، واعتمدوا في زيادة الاعتناء بليلة السابع والعشرين على حديث أبيّ بن كعب الذي كان يقسم اجتهادا منه أنّها فيها، وجلالته علما ودينا تعلمونها من ترجمته.
أمّا ليلة القدر فليست [خاصة] بهذه الأمّة لحديث النّسائي عن أبي ذرّ مرفوعا، الدّالّ على أنّها للأنبياء وأممهم، وهو يُضعف بلاغ الموطأ أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم تقاصر أعمار أمّته عن أعمار الأمم الماضية فأعطي ليلة القدر.
هذا ما عنّ لهذا القاصرفي جوابكم، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمنّي، وعذري الاستعجال وكثرة الأشغال.
الشيخ محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الجعفري رحمه الله
المجلة الزيتونية

ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر خاصة بهذه الأمة المحمدية


تعليقات

التنقل السريع