القائمة الرئيسية

الصفحات

النفاق خطبة الجمعة جوان 2020م حديثي إليكم اليوم عن صفة سيئة وخلق ذميم، نذَكِّرُ بها لما ازداد انتشارها بين الناس، ألا وهي: النفاق. وصدق الله إذ يقول: هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (سورة الأحزاب: 12). والنفاق هو: إظهار الإنسان غير ما يبطن، وأصل الكلمة من النفق الذي تحفره بعض الحيوانات كالجربوع، وتجعل له فتحتين، فإذا هاجمها عدوُّها ليفترسها خرجت من الجهة الأخرى، وسمي المنافق بهِ لأنه يجعل لنفسهِ وجهين يظهر أحدهما حسب الموقف الذي يواجهه. والنفاق هو أن تقول ما لا تفعل، وأن تدعي الإصلاح في العلن، وأنت في الخفاء تفسد، وتسعى إلى نشر الفساد والرذيلة بين المسلمين، بدعوى التحرر والتحضر، وفي مثل هؤلاء يقول الله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (سورة البقرة: 11). والنفاق مذموم سواء أكان نفاقا دينيا أم اجتماعيا أم سياسيا.
ومما جاء من صفات المنافقين في كتاب الله قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (سورة النساء: 143)، وقوله: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (سورة المنافقون: 4)، وقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (سورة البقرة: 206). وقوله تعالى: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (سورة التوبة: 67).
وحدّد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أوصاف المنافقين في قوله: {آيَةُ المُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وإذَا اؤْتُمِنَ خَانَ. وفي رواية: وإنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أنَّهُ مُسْلِمٌ} (مسلم). وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- أخوف الناس من أن يتصفوا بصفات النفاق؛ فهذا حنظلة يقول: {لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقالَ: كيفَ أَنْتَ؟ يا حَنْظَلَةُ قالَ: قُلتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قالَ: سُبْحَانَ اللهِ ما تَقُولُ؟ قالَ: قُلتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ-، يُذَكِّرُنَا بالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حتَّى كَأنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِن عِندِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ-، عَافَسْنَا الأزْوَاجَ وَالأوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، فَنَسِينَا كَثِيرًا، قالَ أَبُو بَكْرٍ، فَوَاللَّهِ إنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هذا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، حتَّى دَخَلْنَا علَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ-، قُلتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، يا رَسُولَ اللهِ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ-: وَما ذَاكَ؟ قُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنَا بالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حتَّى كَأنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِن عِندِكَ، عَافَسْنَا الأزْوَاجَ وَالأوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا فَقالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ-: وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ إنْ لو تَدُومُونَ علَى ما تَكُونُونَ عِندِي، وفي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ المَلَائِكَةُ علَى فُرُشِكُمْ وفي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} (مسلم). وكان عمر -رضي الله عنه- يسأل حذيفة: (هل ذكرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنافقين؟). و"قال ابنُ أبي مُليكَةَ: (أدركتُ ثلاثينَ من أصحابِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- كلُّهم يخافُ النِّفاقَ على نفسهِ، ما منهم أحدٌ يقولُ إنَّه على إيمانِ جبريلَ وميكائيلَ) (فتح الباري لابن حجر)، (ويُذكَرُ عنِ الحَسَنِ قوله: ما خافَه إلَّا مُؤمِنٌ، ولا أمِنَه إلَّا مُنافِقٌ) (إرشاد الساري للقسطلاني).
والنفاق في شرع الله جريمة من أكبر الجرائم، ورتب عليها أشد العقوبات فقال سبحانه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (سورة النساء: 145)، وقال سبحانه: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (سورة المنافقون: 3).
ومن خطورة النفاق، أن ذَكَر الله – سبحانه – في سورة البقرة في المؤمنين أربع آيات، وفي الكفَّار آيتين، وفي المنافقين ثلاث عشرة آية؛ وذلك لكثْرتهم، وعموم الابتلاء بهم، وشدة فتنتهم وخطرهم على الإسلام والمسلمين. واعتبرهم اللهُ العدوَّ الأوَّلّ للمسلمين، فقال: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (سورة المنافقون: 4)؛ ذلك بأن الكافر مجاهر بكفره ومجاهر بعداوته، فيحذره المؤمن. وأما المنافق فعداوته للمسلمين في الخفاء، ويكيد لهم في القفا.
ومن آثار النفاق على المجتمع: انتشار ظاهرة الكذب، وانعدام الثقة بين أفراد المجتمع، وشيوع الرذيلة، وانعدام الفضيلة في المجتمع، ويصبح التعامل بين أفراد المجتمع مبنيا على الشكِّ وسوء الظن، مما يفكِّك الروابط الأسرية ويقطع العلاقات الاجتماعية، ويسهم في تقهقر المجتمع وتأخره. فاتقوا الله عباد الله، واحذروا النفاق، وربُّوا أولادكم على الصدق. وأكثروا من هذا الدعاء: {اللهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِنَ الشِّقَاقِ والنِّفَاقِ وسُوءِ الأَخْلاَقِ} فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو بهذه الدعوات.
الشيخ الدكتور عمر بنعمر

تعليقات

التنقل السريع