القائمة الرئيسية

الصفحات

يوم يكشف عن ساق [القلم: 42] عند اهل السنة

  جواب على تعليقات


أهمّ ما جاء في التعليقات على المقال السابق ما اتّجه إليه بعضها نحو المناقشة العلمية لما ذكرتُه باقتضاب شديد فيما يتعلّق بقول الله تعالى (يوم يكشف عن ساق) [القلم: 42]، واعتراضي على ما جاء في "المختصر في تفسير القرآن" من إضافة السّاق إلى الله تعالى دون المعنى الّذي فسّره به المفسرون من المحدثين وغيرهم، وقد كان من اعتراض بعضهم عليّ أنّ هذه الإضافة وردت في حديث نبويّ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، بصيغة "يوم يكشف ربّنا عن ساقه"، على أنّه تفسير للآية.

وهذا جيّد من حيث الحرص على اعتماد البحث العلمي في طرح مثل هذه المسائل، لكن كانت استدلالاتهم آحادية المصدر، بينما البحث الجادّ يقتضي استيعاب المسألة من وجوهها المتعدّدة، حتّى نتلمّس مواطن الإجماع أو الاتّفاق أو الأغلبي (عند من لم يرتض ادّعائي الإجماع) في تفسير الآية.

سأعرض لهؤلاء الأخوة معطيات لم يذكروها في مناقشاتهم حتّى تساهم في استخلاص النّتائج الأقرب للصحّة:


ـ أوّلا: أنّ جملة "يوم يكشف ربّنا عن ساقه فيسجد له كلّ مؤمن ومؤمنة" من الحديث أخرجها الإمام البخاري بهذا اللفظ[1] ، وبلفظ: "فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن"[2]  وأخرجها الإمامان أحمد بن حنبل[3]  مسلم [4] من نفس الحديث بلفظ: "فيُكشَف عن ساق" أي كما وردت في القرآن، دون إضافة لفظ السّاق إلى الله تعالى.

وأخرج الحافظ أبو بكر الإسماعيلي ـ في المستخرج على صحيح البخاري ـ اللّفظين، وقال: في قوله "عن ساقه": نُكرَة، ورجّح الرّواية بلفظ "يكشف عن ساق"، وقال: هذه أصحّ، وعللّ ترجيحه بموافقتها للفظ القرآن، واعتبر أنّ الرواية بلفظ "ساقه" تفيد مشابهة الله للمخلوقين. وقد نقل ذلك عنه ابن حجر[5]  والقسطلاني[6]  ولم يعترضا عليه، ما يدلّ على تسليمهما بنكارة لفظ "عن ساقه".


ـ ثانيا: أنّ الروايات تدور عند البخاري ومسلم والإسماعيلي وأحمد بن حنبل على زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، ممّا يعني أنّ الاختلاف في لفظ الجملة من الرواة فيما فوق زيد بن أسلم، فالحديث عند الإمام البخاري: من طريق سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم، وعند الإمام مسلم من طريقي هشام بن سعد وحفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم، والإسماعيلي من طريق حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم، وعند الإمام أحمد من طريق عبد الرحمان بن إسحاق.

ولا شكّ أنّ أحد اللّفظين تكلّم به النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، دون الآخر، وأنّ الصّحابي روى أحدهما دون الآخر، وكذلك بالنسبة لعطاء بن يسار الّذي روى عن الصّحابي، ولزيد الّذي روى عن عطاء.

ولا شكّ أيضا أنّ اتفاق هشام بن سعد وحفص بن ميسرة وعبد الرحمان بن إسحاق في روايتهم عن زيد بن أسلم أوثق من رواية سعيد بن أبي هلال وحده؛ لأنّ التّصرّف والرواية بالمعنى لا يكون إلاّ منه.


ـ ثالثا: التّرجيح الّذي سلكه هؤلاء المحدّثون يجري على قاعدة خبر الآحاد في أنّه ظنّي الثّبوت، ولا يكون مصدرا لتقرير العقائد، لكن إذا كان معناه قطعيا ودلّ على أمر مستحيل في حقّ الله تعالى ردّ قطعا، وإن كان معناه محتملا، وجب إمّا تفويض الأمر فيه إلى الله تعالى والإيمان به مع اعتقاد تنزيهه تعالى عن مشابهة الخلق، أو تفسيره على المعنى اللاّئق بالله تعالى. ولذلك لم يستشكل أئمّة الحديث ـ كالخطابيّ[7] ، وعياض[8] ، والسّيوطي[9] ، والعيني[10] ، والكرماني[11] ، وابن الملقن[12]  ـ لفظ البخاري؛ لأنّه حديث صحيح، ولفظ السّاق ليس قطعيا في العضوية، واللّغة تتّسع لمعاني غيرها تليق بتنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين، ولذلك لمّا سئل ابن عباس رضي الله عنه عن معنى "السّاق" في الآية وهي مطلقة غير مقيّدة بالإضافة لله تعالى قال: "إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه من الشعر، فإنها ديوان العرب"[13] .


ـ رابعا: أنّ من ثبت عنه من السلف تفسير لقوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون): هو ابن عباس رضي الله عنه من الصحابة، ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وغيرهم من التابعين، فعن ابن عباس أنه سئل عن قوله تبارك وتعالى: (يوم يكشف عن ساق)، قال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه من الشعر، فإنها ديوان العرب،...، قال: هذا يوم كرب وشدّة، والساق: الأمر الشديد المفضع من الهول يوم القيامة، يقال: قامت الحرب على ساق[14] . وذكر ابن حجر العسقلاني أن الروايات عن ابن عباس في درجة الصحيح والحسن [15]. 

وبناء على ذلك فإنّ من تعرّض من أئمّة الحديث لشرح لفظ البخاري سار على قول ابن عباس رضي الله عنه، بل هناك من توسّع فحمل معنى السّاق على ما رآه لائقا به عزّ وجلّ، وهي مذكورة في كتب الشروح، ولكن دون جزم بمعنى من هذه المعاني ـ كما قال الإمام الخطابي ـ، أي بردّ تعيين المعنى المراد إلى الله عزّ وجل[16] . 


ـ خامسا: ذكر بعض المعلّقين على المقال، أنّ الأوْلى كان عليّ أن أردّ على محمد أركون وهشام جعيط وعلي عبد الرازق وكتب العلمانيين التي تطعن في النّبوّة ...، وأزيد عليه كتب الشيعة في الطعن في الصحابة...، ولا أدري هل اطلعوا على هذه الكتب ورأوا أنّ أصحابها يستندون إلى جميع الروايات الموجودة في كتب السنّة، مقبولها ومردودها، غثها وسمينها، وربما رجّحوا الغير المقبول على المقبول، على سبيل الانتقاء والهوى، دون استناد إلى معايير منضبطة في اعتماد الروايات، وهي نفس الطريقة لدى البعض في البحث عن الروايات الغريبة لتقرير العقائد، دون اعتماد المنهج العلمي الصارم الذي قرره علماء أهل السنة من الأصوليين والفقهاء في نقد الروايات عموما، وفي تقرير العقائد خصوصا. فإن منهج أهل السّنّة لا يقبل المتناقضات، ولو تمسكنا بهذا المنهج ونشرناه بين الأمة تعلّما وتعليما، لما وجد أمثال من ذكروا رواجا لفكرهم وإعجابا من المتدّينين أنفسهم وتبنّيا لها.

بهذا المنهج الأصولي الفقهي، واعتمادا على قواعده، سهل على الإمامين محمد الخضر حسين ومحمد الطاهر ابن عاشور الردّ على كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق، وكتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين ونحو ذلك. لكنّ واقعنا يقول إنّ هذا المنهج حين يعتمده هذان الإمامان للردّ على الشبهات يكون مقبولا ويشاد بهما، وحين يعتمدانه في تقرير عقائد الإسلام يتّهمان..        


ـ سادسا: أحدهم قال لي: كنت أكنّ لك الاحترام، يقصد حتّى تحدثت في أمر لا يرضيه ويصادم اعتقاده!، فكان يجب عليّ أن أكتم اعتقادي ولا أظهره وأن أبقى في باب الطهارة كما قال أحد المعلقين، فأنت فقيه ما دمت كذلك!. وهذا منهج بدأ يتبلور لدى بعض من يشتغل بالفقه؛ لغاية سلخ علمي الفقه والحديث عن علم العقيدة، وهو أمر غريب عن شمولية المعرفة الشرعية.

   ألا فإني لست مدينا لأحد باحترامي فليقل ما بدا له.


الحبيب بن طاهر      


_______________________________

[1] البخاري في التفسير، باب "يوم يكشف عن ساق".

[2] البخاري في التوحيد، باب وجوه يومئذ ناضرة.

[3] أحمد في مسنده، مسند أبي سعيد الخدريّ، رقم 11127.

[4] مسلم في الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية.

[5] فتح الباري: 8/564.

[6] شرح القسطلاني: 7/399.

[7] أعلام الحديث: 3/930 ـ 933.

[8] مشارق الأنوار: 2/231.

[9] التوشيح شرح الجامع الصحيح: 7/98.

[10] عمدة القارئ: 19/257.

[11] الكواكب الدراري: 18/163.

[12] التوضيح لشرح الجامع الصحيح: 23/447.

[13] الأسماء والصفات، للبيهقي: 2/80 ، 83.

[14] الأسماء والصفات، للبيهقي: 2/80 ، 83.

[15] فتح الباري : 13/428.

[16] أعلام الحديث: 3/933.







تعليقات

التنقل السريع