القائمة الرئيسية

الصفحات

الصاع النبوي بقلم الامام شيخ الاسلام محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله تعالى

الصاع النبوي بقلم الامام شيخ الاسلام محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله تعالى

تقديم

حقيق على علماء الإسلام ان يهتموا بضبط معاني الأسماء التي يناط بها أمر أو نهي في الدين ضبطا يساير مختلف الأعصار و الأمصار كي تجري أمور الديانة على سبيل واضحة بينة لا يعتريها تردد ولا يخالجها إبهام. وحق على الأمة أن تطالب علمائها ببيان ذلك لها حتى تكون على بينة من الأمر و حتى تجري أعمالها في أمور دينها على طرقة سواء و إن إختلفت الأسماء و تباعدت الأقطار و الأنحاء.
ولا يحسبن أحد من أولئك أو هؤلاء أن في إجراء تلك الأعمال على إجمال أو إبهام معذرة لهم في الوفاء بحق التكليف ولا أن في الأخذ بالإحتياط أو الأحوط كفاية لهم لأن ذلك لا يتأتى في كثير من الأحوال و لأن الإحتياط عبارة عن عمل يصير إليه العلماء عند تعذر أو تعسر العمل بأمر مضبوط فهو من فروع ما يسمى في علم الأصول الإستدلال و إنما يصار إلى الإستدلال عند استفراغ الجهد في طلب الدليل ثم العجز عن تحصيله. فأما الأخذ بالأحوط فهو عبارة عن اختيار أحد الأمرين المتعارفين عند عدم ظهور وجه يرجح اعتبار أحدهما دون الآخر فيكون الأخذ بالأحوط طريقا من طرق الترجيح عند التعارض وهو آخر المرجحات و إنما يصار إلى الترجيح إذا تعارض دليلان و لا تعارض قبل البحث عن الدليل و معارضه.
و قد جرى تقدير مقادير نصاب زكاة الحبوب و الثمار و زكاة الفطر و كفارات الأيمان و فدية الصيام و غير ذلك بالصاع و المد و الوسق فكانت من الأسماء الشرعية المجهول مسماها اليوم عند طوائف جمة.
و قد نشأ هذا الجهل من تفريط المسلمين في ضبط كثير من أمور دينهم و تغلب العادات و الإصطلحات عليهم في شؤون مجتمعهم فإذا نظرنا إلى الزكاة وجدنا أهل كل بلد لا يضبطون مقدار النقود الرائجة عندهم من الذهب و  الفضة بمقدار الدينار و الدرهم الشرعي و لا يضبطون مقادير المكاييل الرائجة عندهم بما هو المطلوب في إخراج الزكاة داخنلين في ذلك كله على التسامح و محكمين الأسماء دون المسميات و الألفاظ دون المعاني.

المخالفة في مقادير المكاييل المستعملة من بلاد المسلمين و مقادير المكاييل الشرعية:

كان الإختلاف في مقادير المكاييل و في تقديرها على المكيال المعتبر شرعا من القدم ما اختلف فيه علماء الاسلام تشأ عن إهمال العمل بالمكاييل الشرعية في كثير من الأقطار. لقد كانت هذه المعضلة من المسائل التي دارت بين الإمام مالك ابن أنس و أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهم الله.
قال عياض في المدارك: سأل أبو يوسف مالكا عن الصاع فقال مالك خمسة أرطال و ثلث. فقال: ومن أين قلتم ذلك؟ فقال مالك لبعض أصحابه: أحضروا ما عندكم من الصاع فأتى أهل المدينة أو عامتهم من المهاجرين و الأنصار و تحت كل واحد منهم صاع فقال: هذا صاع ورثته عن أيي عن جدي صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم، فرج أبو يوسف إلى قوله يعني و قد كان يقول بقول أبي حنيفة أنّ الصاع النبوي ثمانية أرطال فلذلك كان المنقول عن أبي يوسف في الفقه الحنفي أنه قال: الصّاع خمسة أرطال و ثلث خلافا لأبي حنيفة.

نشأة الصاع النبوي وما ظهر بعده من الأصواع:

لا شك في أن الصاع النبوي هو صاع أهل المدينة المنورة الذي كان متداولا عندهم لما هاجر إليهم النبي صلى الله عليه و سلم إذ لم ينقل في كتب السنة و السيرة أن النبي صلى الله عليه و سلم وضع لهم مكيالا غيّر به مكيالهم الذي ألفاهم عليه و أخرج النسائي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: « المكيال مكيال أهل المدينة و الوزن وزن أهل مكّة »و إن قوله في الدعاء لهم «اللهم بارك لهم في مكيالهم و بارك لهم في صاعهم و مدهم» كما في حديث الموطأ يزيدنا يقينا بهذا فالصّاع الشرعي هو صاع المدينة الموجود في زمن النبي صلى الله عليه و سلم و المدّ هو مدّ أهل المدينة إذ به جرت المفاهيم الشرعية و بلاد العر بمعروفة بقلة الأقوات و بقناعة أهلها و ذلك يقتضي أن تكون مكاييلهم صغيرة. و يسمّى المّد أيضا المكّوك(بشد الميم و شد الكاف)كما في حديث الثلث عند النسائي وكانت وحدة المكاييل عندهم المدّ و من أربعة أمداد يكون الصّاع. و قد إستمر الصّاع النبوي مكيالا لأهل المدينة إلى زمن هشام بن المغيرة المخزومي أمير المدينة في خلافة هشام ابن عبد الملك الأموي فجعل هشام لهم مدّا أكبر من المدّ النبوي صاعا على نحو ذلك المدّ و يسمى المدّ الهاشمي و المدّ الأعظم، أخرج النسائي عن السائب بن يزيد (من الصحابة توفي سنة 86ه) أنه قال: كان الصاع على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم مدّا و ثلثا بمدّكم اليوم و قد زيد فيه اه.
أي كان الصاع الذي هو أربعة أمداد يعادل مدّا و ثلثا من صاعهم يومئذ. ثم لما إنتشر الاسلام في في الأقطار استمر أهل كل قطر على الكيل بمكاييلهم المتعارفة فتكاثرت المكاييل في بلاد الإسلام كثرة شديدة. ولا نشك في أن دواعي لم نطلع عليها دعت بعض أمراء المدينة إلى إحداث مكاييل في المدينة لم تكن في الزمن النبوي ولا في مدة الخلفاء إلى أن أحدث هشام بن المغيرة أمير المدينة مدّا و صاعا أكبر من مدّ النبي صلى الله عليه و سلم و صاعه و هما المعروفان بمدّ هشام و صاع هشام و بالمدّ الأعظم و الصاع الأعظم و أحدث عمر بن عبد العزيز مدّا دعي بالمدّ العمري.
وأحسبهم ما أحدثو ا ذلك إلا لتيسير سرعة كيل الأعطية من بيت المال و ما يؤخذ على التجار و أهل الخراج من الأرزاق العائدة إلى بيت المال و لكنهم كانوا لقرب العهد و لدقة الضبط في مأمن من المخالفة لمقدار الصاع النبوي و لذلك نجدهم يقدرون تلك الأصواع المتداولة بما يوازي الصاع النبوي.اه.
فتاوى تونسية


  

تعليقات

التنقل السريع