القائمة الرئيسية

الصفحات

حروب الردة

الحلقة الثانية 

بدأ الصِّدِّيق في تجهيز مجموعة من الجيوش الإسلامية التي ستخرج لحرب المرتدين في وقت متزامن، فجهز 11 جيشًا كاملاً. ومع أن كل جيش لم يَعْدُ أن يكون ألفين أو ثلاثة، أو بالكاد خمسة آلاف، ولكنها كانت جيوشًا مُنَظَّمة, راغبةً في الجهاد في سبيل الله, فاهمةً لقضيتها, معتمدة على ربِّها، ومن كانت هذه صفته فيُرجى له النصر إن شاء الله. وحدَّد الصِّدِّيق اتجاه كل جيش من هذه الجيوش الأحد عشر، فوُزِّعت هذه الجيوش على الجزيرة توزيعًا دقيقًا؛ بحيث تستطيع تمشيط كل رقعة منها تمشيطًا كاملاً، فلا تبقى قبيلة أو منطقة إلا وفيها من جيوش المسلمين، وكانت قيادة الجيوش الإسلامية، ومسارح عملياتها على الصورة التالية:

الجيش الأول
قاد خالد بن الوليد t ذلك العبقري المسلم الفذّ الجيش الأول، وكان عدد الجيش 4000 مجاهد وكان أكبر الجيوش، إلاَّ أن المهمَّة كانت صعبة؛ فقد كان متجهًا إلى حرب طيئ أولاً، ثم بني أسد تلك القبيلة الخطيرة التي يقودها طليحة بن خويلد الأسدي، ثم بني تميم وفيهم مالك بن نُويرة، فإذا انتهى من كل هذا بنجاح فإن عليه أن يتوجه إلى بني حنيفة؛ لمقابلة أخطر جيوش المرتدين، وعلى رأسها مسيلمة الكذاب، وذلك لمساعدة الجيشيْن الثاني والثالث.

برز خالد بن الوليد في حروب الرِّدَّة كقائدٍ محترفٍ ومقاتلٍ شجاع مارس عمليًّا مهامَّ القائد العام، واستطاع بفضل الخطط العسكرية المبتكرة والمداهمات الصاعقة التي نفَّذها ضدَّ المرتدين أن يُحقِّق النجاح المطلوب في مهمَّته الصعبة؛ ففي أقلِّ من عامٍ كانت لديه القدرة لقمع حركة الرِدَّة وتصفية جيوب التمرُّد في كافَّة أنحاء الجزيرة العربية.

كانت مواجهته الأولى ضدَّ طليحة الأسدي، وخصَّصه أبو بكر بأربعة آلاف مقاتل أقلهم من المهاجرين، وأكثرهم من القبائل القريبة من المدينة وبعض بني كنانة، وكان فيهم من الأنصار ما بين أربعمائة إلى خمسمائة مقاتل بقيادة ثابت بن قيس، وحمل أبو لبابة رايتهم[1].

أرض المعركة وأطراف القتال
أقام طليحة في منازل بني أسد ببزاخة، وعسكر جيشه في سَميراء، وانضمَّت إليه فلول عبس وذبيان الذين هزمهم أبو بكر، كما انحازت إليه قبائل غطفان وسُليم ومن جاورهم من أهل البادية في شرق المدينة وفي شمالها الشرقي، وحاول استقطاب طيء للانضمام إليه عن طريق الحلف الذي كان بينهم وبين بني أسد في الجاهلية، فتعجَّل أقوامٌ من جديلة والغوث -وهما من طيء- بالانضمام إليه، وأوصوا من تأخَّر باللِّحاق بهم[2]، وفعلًا وحَّدتهم العصبية القبلية، وتقبَّلوا رأي عُيينة بن حصن "نبيٌّ من الحليفين أحبُّ إلينا من نبيٍّ من قريش، وقد مات محمَّدٌ وطليحة حي"[3]. ولم تُخالجهم أدنى ريبةً في تعرُّضهم لهجمات المسلمين إن هم أصرُّوا على خروجهم على سلطان المدينة ومتابعة طليحة، وامتنعوا عن دفع الزكاة[4].

اشتدَّ ساعد طليحة بما انضمَّ إليه حتى ظنَّ أنه لن يُغلب، ونقل معسكره من سَميراء إلى بزاخة -الأكثر مناعة- استعدادًا لمواجهةٍ محتملةٍ مع المسلمين.

تمويه وأساليب مبتكرة في المناورة
أمر أبو بكر خالدًا رضي الله عنهما أن يبدأ بطيء قبل أن يتوجَّه إلى البزاخة، وحتى يُموِّه على الحملة تصرَّف على محورين:

الأوَّل: أذاع أنَّه خارجٌ بنفسه على رأس الجيش إلى خيبر[5] حتى ينضمَّ إلى قوَّات خالد ثُمَّ ينطلق لمحاربة المرتدِّين، فابتعد بذلك عن طريق البزاخة، فاطمأنَّت طيء وتقاعست عن الخروج لمساعدة طليحة، ففصل بذلك بين الحليفين ليضرب كلًّا على حدة.
الثاني: حاول أن يستقطب طيِّئًا عن طريق عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه، وهو أحد الأشخاص الذين ثبتوا على إسلامهم، فكلَّفه بمهمَّة إخراج قومه من التحالف مع طليحة والعودة بهم إلى طاعة المدينة، ونجح عديٌّ رضي الله عنه في مهمَّته، لكن كان على طيء أن تسحب قوَّاتها الموجودة في معسكر طليحة خشية أن يقتلهم أو يرتهنهم، فطلبوا من عدي أن يكفَّ خالدًا رضي الله عنه عنهم حتى يستخرجوهم[6].

الحوار أحد أهمِّ أسباب الانتصار
استحسن خالد رضي الله عنه هذا العرض وأمهلهم ثلاثة أيَّام مدركًا في الوقت نفسه أنَّ من شأن ذلك أن يُكسبه قوَّة إضافيَّة ويُضعف من قوَّة خصمة، وطلب القوم من إخوانهم في البزاخة أن يعودوا إلى منازلهم ليُساعدوهم في التصدِّي لزحف المسلمين، وسمح لهم طليحة بالعودة فانضمَّ بذلك خمسمائة مقاتل من الغوث إلى صفوف المسلمين[7].

ارتحل خالد بعد ذلك إلى الأنسر[8] يُريد جديلة، فتدخَّل عدي بن حاتم رضي الله عنه أيضًا، وأقنع الجديليين بالعودة إلى حظيرة الإسلام، ويبدو أنَّ انضمام الغوث إلى المسلمين شكَّل دافعًا لهؤلاء لتغيير موقفهم، وانضمَّ خمسمائة مقاتل منهم إلى صفوف خالدٍ رضي الله عنه، فأضحى عدد جنوده خمسة آلاف[9]، كما انضمَّت سُلَيم إلى صفوف المسلمين، وكانت لا تزال متردِّدة إلى أن زحف خالد نحو بني أسد فخشيت على نفسها. 

ضحايا لا مرتدُّون
الواقع أنَّ بعض القبائل التي صنَّفها المؤرخون في عداد المرتدين -مثل طيء- كانت في الحقيقة ضحيَّة مزيج من عدَّة مشاعر تفاعلت في أبنائها نتيجة عدم تجذُّر العقيدة الإسلاميَّة في قلوبهم، بالإضافة إلى وقوعهم تحت تأثير التقاليد الجاهليَّة وأفكارها، ثُمَّ ارتباطهم بروابط الأحلاف وحسن الجوار مع قبائلٍ أخرى، هذا فضلًا عمَّا رأوه في بعض أحكام الإسلام من تضييقٍ على حريَّتهم، وانتقاصٍ من سطوتهم، وتحمُّلهم أعباءً هم في غنى عنها[10]، ومثل هؤلاء كانوا بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الإقناع والموعظة الحسنة، والتعريف بأحكام الإسلام وأهدافه، ويتعذَّر تحقيق ذلك في بضع سنين.

تراجع طليحة الأسدي وضعف موقفه
مهما يكن من أمرٍ فقد بلغت أنباء التحوُّلات الجديدة طليحة في البزاخة فاغتمَّ، لكنَّه أصرَّ على موقفه، وشجَّعه عيينة بن حصن الفزاري الذي كان يكنُّ الحقد على أبي بكرٍ رضي الله عنه والمسلمين.

يبدو أنَّ طليحة -على الرغم من أنَّه اتصف بالشجاعة والحذر- لم يستطع مخالفة عيينة بعد أن انسحبت جموع طيء من صفوفه خشيةً من انقلابه عليه وتعريض حياته للخطر، وآثر البقاء حيث هو منتظرًا قدوم خالد، وعسكر على ماءٍ آخر يقال له الغمر[11].

بثَّ طليحة العيون على فجاج الصحراء حتى لا يُؤخذ على غرة، وعلم منهم بزحف المسلمين قبل أن يصلوا إلى بزاخة، فعبَّأ قواته استعدادًا للمواجهة، ووضع خطَّةً عسكريَّةً قائمةً على الغلبة والفرار في حال الهزيمة، فعزل معظم النساء في مكانٍ أمين لئلا يقعن في السبي إذا دارت الدائرة عليه، وأحاط نفسه بأربعين فارسًا من أشدِّ فتيان بني أسد.

تميَّز جيش طليحة بميزتين هما الكثرة العدديَّة والرَّاحة؛ فقد زاد عدد أفراد جيشه عن عدد أفراد جيش خالد بألف مقاتل أو أكثر مع وفرة السلام والركائب، كما كان مرتاحًا في دياره على عكس الجيش الإسلامي الذي كان على أفراده أن يُقاتلوا بعد سير مئات الأميال في الأودية والجبال[12]، وشغلت نجد كلها بهذه المعركة التي أضحت على الأبواب. 

عصبيَّة لم تنتهِ
التفَّت قيس وبنو أسد حول طليحة واستعدُّوا للقتال، فأشارت جماعةٌ من طيء على خالد رضي الله عنه أن يُحارب قيسًا ويعدل عن بني أسد؛ وذلك لحلفٍ كان بينهم في الجاهلية كما أشرنا، وإن دلَّ هذا الطلب على شيءٍ فإنَّه يدلُّ على أنَّ القوم لا زالوا يُفكِّرون بالعصبيَّة الجاهليَّة، وينظرون بالعين القَبليَّة، وأنَّ الإسلام لم يتجذَّر في قلوبهم، وأنَّ عودة طيء عن ردَّتها كانت بدافع الواقع السياسي والعسكري.

عارض عدي بن حاتم رضي الله عنه هذا التوجه وكان خالدٌ رضي الله عنه حريصًا على ألَّا يسمح لأيِّ انشقاقٍ يحدث داخل صفوف قوَّاته؛ فهو بحاجةٍ إلى كلِّ مقاتلٍ نظرًا إلى شدَّة بأس عدوُّه الذي يُحارب على أرضه، فأقنع عديًّا رضي الله عنه بمجاراة قومه، وهكذا قاتلت طيء قيسًا، وقاتل سائر المسلمين سائر بني أسد[13].

التحم الجيشان في رحى معركةٍ ضاريةٍ انتهت بانتصار المسلمين، وانفضَّ الفزاريُّون عن طليحة بعد أن اكتشفوا أنَّه كاذب، فطاردهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم وكان عيينة من بين الأسرى، ولاذ طليحة بالفرار حتى النقع من منازل كلب على تخوم بلاد الشام، وقُتل من جيشه خلقٌ كثير وعاد من بقي عن ردَّته[14].

إسلام طليحة الأسدي وإعلان توبته

عندما علم طليحة بتحوُّل كفَّة الصراع إلى جانب المسلمين وبلغه ما لقيت أسد وغطفان من الشدَّة وعودة من ارتدَّ منهم إلى الإسلام، أسلم وحسن إسلامه بعد ذلك واشترك في معركة القادسيَّة، وحفظ له عمر رضي الله عنه مكانته ورأيه في الحرب، فكتب إلى النعمان بن مقرِّن أحد قادة جيوش فتح العراق: "أن استعن في حربك بطليحة وبعمرو بن معدي كرب"، ولقد استشهد في معركة نهاوند[15].

ذيول معركة البزاخة:
- استثمر خالدٌ رضي الله عنه انتصاره في البزاخة لإخضاع القبائل المرتدَّة الضاربة في الجزء الشمالي الشرقي من الجزيرة العربية ودفعها للعودة إلى حظيرة الإسلام، وتثبيت أقدام المسلمين في هذا الجزء؛ لذلك أقام في المنطقة مدَّة شهر ٍكاملٍ نفَّذ خلاله عدَّة عمليات عسكريَّة ضدَّ فلول المرتدِّين، وهكذا عاد بنو عامر وسليم وهوازن من ردَّتهم[16].

- طلب خالد من غطفان وهوازن وسليم وطيء -حين وادعهم- تسليمه الذين قتلوا المسلمين ومثَّلوا بهم أثناء رِدَّتهم، فلما جيء بهم عفا عن المقاتلين العاديين وأرسل الزعماء إلى المدينة، كان من بينهم قرَّة بن هبيرة القشيري صاحب رِدَّة بني عامر، وعيينة بن حصن الفزاري. وقتل الذين عدوا على المسلمين، وكتب إلى أبي بكر يُعلمه بتصرُّفه هذا[17].

- وافق أبو بكر على تصرُّفات خالد وشجَّعه على الاستمرار في محاربة المرتدِّين ومطاردتهم، ورأى أن يتألَّف زعماء القبائل؛ لأنَّ حركة الانتفاضة على الحكم الإسلامي في الجزيرة العربية كانت لا تزال في بدايتها والمسلمون بحاجةٍ إلى تأليف قلوب هؤلاء ليكونوا عونًا لهم في هذه المحنة، فعفا عن قرَّة وعيينة وعلقمة بن علاثة الكلبي، وقتل الفجاءة وهو بجير بن عبد الله السلمي؛ نتيجة ما اقترفت يداه من العدوان والقتل بحق المسلمين[18].

- اصطدم خالد بسلمى بنت مالك الفزارية المعروفة بـ"أُم زمل" وقد خرجت لتُصيب ثأرًا عند المسلمين[19] وساندتها بعض القبائل المرتدَّة، وأسفر اللقاء عن انتصار المسلمين ومقتل أم زمل وفرار أتباعها[20].

وصل خالد بعد ذلك إلى قبيلة بني تميم، فوجدهم قد دخلوا في الإسلام كما خرجوا منه؛ لمَّا رأوا انتصار المسلمين على جيوش بني أسد، وكان الصِّدِّيق t قد أوصى أمراء الجيوش أنهم إذا سمعوا الأذان في الحيِّ وإقامة الصلاة نزلوا عليهم، فإن أجابوا إلى أداء الزكاة، وإلاّ الغارة، فجاءت السرية حيَّ مالك بن نويرة، فأسر خالد بن الوليد مجموعة منهم فيهم مالك بن نويرة نفسه. وهناك اختلاف شديد على تصرُّف خالد بن الوليد في مالك بن نويرة وبعض الأسرى الآخرين, والتفسير الأقرب إلى الصحة أن خالد بن الوليد قال لبعض الحرّاس الذين يحرسون الأسرى: أدفئوا أسراكم؛ لأنها كانت ليلة شديدة البرد، ولكن مجموعة من الحرّاس في لغتهم إذا قالوا: أدفئوا الرجل. يعنون: اقتلوه. فقتلوا الأسرى، وبدءوا بمالك بن نويرة قائد القوم، فقتلوا منهم عددًا، حتى بلغ خالد بن الوليد ذلك، فقال: حسبكم.

موقع قصة الإسلام راغب السرجاني

تعليقات

التنقل السريع