القائمة الرئيسية

الصفحات

حكم الاقتداء بإمام عن بُعْدٍ

إنّ صلاة الجماعة في الخمس والتروايح، حين تقام في المسجد أو في غير المسجد، ليست مجرّد اقتداء آليّ بإمام، في صلاة لا روح فيها، حتّى يُنظر في صحّتها بطريقة إجرائية بحتة، ودون إلتفات إلى مقاصد التشريع من ذلك.
وقد اشترط فقهاؤنا في صلاة الجماعة في الخمس والتّراويح، تحقّق متابعة الإمام، لا احتمال المتابعة. وأمّا الاقتداء بإمام عن بُعد، فهو مذكور في المذهب المالكي في صور أربع:
الأولى: في جارِ المسجد.
الثانية: من كان بجبل أبي قبيس يقتدي بإمام الحرم.
الثالثة: من كان بينه وبين الإمام طريق أو نهير صغير.
الرابعة: في السفينة، يقتدي من بأسفلها بمن بأعلاها.
وحكم هذه المسائل خاصّ بها، لا يجري فيها التعميم، ولذلك جعلوا لها ضوابط. وما ذكروه من جواز اقتداء جارِ المسجد بإمام في مسجد، فالّذي حقّقه الشيخ الدسوقي نقلا عن الإمام اللّخمي في ضوابط هذه المسألة بالذّات: (أ) أن تكون الدّار بقرب المسجد. (ب) أن يكون إمام المسجد في قبلة من يريد الاقتداء به. (ج) أن يرى الإمام. (د) أن يسمع الإمام.
فهذه أربعة قيود خاصّة بالدّار (التبصرة: 1/317، وحاشية الدسوقي: 1/338)، وهي على خلاف ما هو مذكور في جواز متابعة الإمام بأحد أمرين: الرّؤية أو السّماع، لا بهما معا، إذا كان كلّ من الإمام والمأموم في المسجد أو في غيره في مكان مشترك.
فقد وقع التنصيص في حالة الدّار على القرب، بما يمكن المقتدي من رؤية فعل الإمام أو المصلين معه، وسماع تكبيره أو سماع تكبير المصلّين. وظاهر هذه الشروط أنّ الاقتداء من الدّار بدونها لا يكون صحيحا. والأصل الّذي بنوا عليه الجواز: صلاة أمّهات المؤمنين وهن في بيوتهنّ بصلاة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم والخلفاء من بعده، ومعلوم أنّ بيوتهنّ ملاصقة للمسجد النّبوي، وكانت لها أبواب تفتح داخله، فلا شكّ أنّهنّ كنّ يرين الإمام أو صفوف المصلين، ويسمعن تكبير الإمام أو تكبير المصلّين.
فإن كان المقتدي في غير دار، فقد أجازوا الاقتداء بالإمام بأحد أمرين: برؤية الإمام أو بسماعه، وذلك إذا كان بين المقتدي والإمام فاصل لا يخلّ بالتّمكّن من متابعة الإمام، ومثّلوا لهذا الفاصل بالطريق والنّهير الصّغير، ممّا يؤكّد اشتراط قدر من الاشتراك في المكان بين الإمام والمأموم.
فإن كانت الدّار بعيدة، بحيث يرى المصلي فيها الإمامَ ولا يسمعه، أو كانت قريبة بحيث يسمعه ولا يراه، أو كان المصلّي على جبل أبي قبيس، أو كان بأسفل السفينة يسمع الإمام في الأعلى ولا يراه، فالصّلاة مكروهة (التبصرة: 1/317، وحاشية الدسوقي: 1/338، والفقه المالكي وأدلته: 1/325)؛ لأنّ المقتدي في هذه الحالات يدخل على التخمين والتقدير، هل تؤول صلاته إلى الصّحّة أو إلى البطلان؛ إذ لو خالف الإمام في التقديم والتّأخير، وفي اضطراب ركعاته عن ركعات الإمام، ولم يدر ما الّذي فعله الإمام، بطلت الصّلاة حتما.
فعلم من حالتي الجواز والكراهة أنّ المتابعة المطلوبة للإمام في المذهب، متابعة شرعية محدّدة بقيود، في الصور الأربعة، وفي كيفيتها. وبذلك يتحققّ مفهموم الجماعة لغة واصطلاحا التي تقتضي الحضور المكاني، حيث لا إمام إلاّ بجماعة، ولا اقتداء إلاّ بإمام، فالمقتدي المنفرد لا يتحقق له مفهوم الاجتماع مع الإمام إلاّ بالحضور المكاني، فإن كان أكثر من واحد تحقق الاجتماع وكانوا جماعة منفصلة فتسنّ لهم تأكيدا في مكانهم، بأن يكون أحدهم إماما.
فيجب عندئذ الوقوف عند هذا النّقل، ولا يتجاوز إلى أكثر منه، وما زاد على ذلك لا يحتمله كلام فقهاء المذهب، ولا يمكن نسبته إليهم، ولا التخريج عليه بدون تلك القيود؛ بل من التجنّي فعل ذلك، لأنّه يؤدّي إلى الإخلال بالجانب التّعبّدي في هيئة صلاة الجماعة، الذّي يتنافى مع الاسترسال في القياس والتخريج.
وبذلك يسقط القول بالاقتداء بإمام المسجد عن طريق مكبّرات الصّوت، هكذا بفتوى عامّة لعموم النّاس؛ لأنّ الضّوابط الأربعة التي نصّ عليها الإمام اللخمي وأُقِرَّ عليها، لا يمكن تحقّقها إلاّ للقليل الملاصقين للمساجد، أو للقريبين منها قربا لا يخلّ بالمقصود، الّذي هو تمام المتابعة.
وأمّا فتوى الاقتداء بالتلفاز والإذاعة، فلا يسعني أن أقول فيها إلاّ إنّها لا صلة لها بالفقه، ولا بعلل مسائله، ولا بالتخريج عليها، وهي ليست أكثر من توهّم أصحابها حصول أجر الجماعة بذلك، جاعلين النّاس معهم في وهم بما يفعلون؛ لأنّ ما ينقله التلفاز ليس حقيقة مطابقة للواقع أثناء النّقل، وإنّما هو محاكاة لما وقع قبلُ وتمّ نقله عبر الأثير، لا يشترك فيه المقتدي مع الإمام لا في الزّمان ولا في المكان، والمقتدي بالتلفاز لا يعتبر مقتديا بإمام حقيقة واقعية، بل يعتبر مقتديا بجهاز جامد، لا حياة فيه، ينقل حدثا مصوّرا مسجّلا لما وقع، فضلا عن كون دار المقتدي ليست قريبة من المسجد، ولا كان المسجد في قبلتها، كما قيّد بذلك فقهاء المذهب الاقتداء بإمام المسجد من الدار.
فإن كان الدّافع لهذه الفتوى الحرص على أجر الجماعة، فهو التّشدّد والتنطّع بعينه الّذي نهى عنه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فما هكذا شرعت الجماعة في الخمس والتراويح، وما هكذا هيئتها، وما بهذه الهيئة السّطحية تتحقّق مقاصد الشّرع منها؛ إذ يكفي أن يؤمّ الرجل أهل بيته، أو رفيقه في العمل ونحو ذلك، ليحصل لهم أجر الجماعة في غير المسجد.
ومع ذلك فإنّ هذه الفتوى تجرّ إلى مفاسد عظيمة، منها الانقطاع عن المساجد وهجرانها مستقبلا، وفتح الباب أمام المتثاقلين، للتعلّل بأنّ صلاة الجماعة صحيحة من المنازل.
إنّ هذه الهيئة توحي لمن يقتنص مداخل التشكيك بأنّ المساجد لا لزوم لها، طالما كان بالإمكان الاقتداء بإمام واحد، تنقل صلاته عبر التلفاز، لشعب واحد، في عموم البلاد، فمثل هذه الفتاوى جرّت على الأمّة البلاوى، لا تنفع إلاّ السّلاطين، وهؤلاء ما أحوجهم إلى مثلها وأكثر منها. نسأل الله تعالى السداد في الفهم.

الحبيب بن طاهر
22 أفريل 2020 م الموافق لـ: 29 شعبان 1441 هـ


L’image contient peut-être : texte

تعليقات

التنقل السريع