القائمة الرئيسية

الصفحات

بسم الله
والصّلاة والسّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
هل كان يحقّ للبنوك الموصوفة بـ"الإسلامية" أن توظّف فوائد على ديون المقترضين بسبب قرار الحكومة بتأجيل استيفاء ديونها 
لا ننظر هنا في أصل العقود التي تبرم بين البنوك الموصوفة بـ"الإسلامية" وحرافائها، ومدى جريانها على قواعد الشرع، فهذه مسألة عالجتها في كتاب "المرابحة المصرفية، الإخلالات الشرعية والحلول التصحيحية". 
وإنّما نعالج هنا ما إذا كان يحقّ لها بعد استقرار العقد ابتداء توظيف فوائض على ديون المقترضين أثناء جريان العقد بسبب أمر الحكومة لها بتأجيل استيفاء هذه الديون مدّة ستّة أشهر جراء وباء "كورونا"، فهذا ـ ولا شكّ ـ أفحش أنواع الربا، الّذي هو ربا الجاهلية الذّي حرّمه الله عزّ وجلّ في كتابه العزيز، وأبطله النّبيّ ﷺ في خطبة الوداع، والذّي تلخّصه قاعدة "أخّرني وأزيدك".
وعندئذ يجب أن تتّجه الفتوى إلى توجيه البنوك إلى ممارسة حقّها في اقتطاع مستحقّاتها من حسابات المدينين في آجالها، فإنّ أموالهم تحت يدها، لا إلى تجويز انتهاك حدود الله تعالى باستباحة الربا. 
وإذا كان قرار الحكومة هو ما يمنعها من ذلك، فهو قرار قاهر، بغض النّظر عن شرعيته؛ لأنّ الحاكم لا يحقّ له أن يُسقط حقوق النّاس فيما بينهم، وإنّما إذا أراد تحقيق مصلحة ما للمدينين فما عليه إلاّ أن يتحمّل ذلك عنهم لفائدة الطرف الثاني للعقد، ولذلك فإنّ هذا القرار بمثابة الجائحة نزلت على هذه البنوك، وهي بالخيار بين أن لا تمتثل لقرار تأجيل الاقتطاع، وإن امتثلت فلا سبيل لها إلاّ أن تخاصم صاحب القرار لإبطاله، وتحمّله تبعات قراره عليها، ولا يجوز لها شرعا أن تطلب تعويضا على ذلك من المدينين بتوظيف زيادة على أصل الدين؛ لأنّ هذه الزيادة رِباً بإجماع العلماء، بل هذا الحكم من المعلوم من الدّين بالضّرورة، لا يحتاج للاستدلال عليه. 
وإلزام السلطان بتحمّل تبعات قراره القاهر، الّذي يؤدّي إلى الإضرار بأحد طرفي العقد، مسألة معلومة في كتب علمائنا، وقد قال الشيخ الدردير في مسألة مثيلة لهذه: "ويلزم السلطان أجرتها لربّها"، في مسألة قهر أرباب الحوانيت على غلق حوانيتهم بحيث لم يتمكّن المستأجرون من الانتفاع بها، فاقتضى عدل الشريعة أن لا يكلّف المستأجرون دفع كراء الحوانيت لأصحابها مع غلقها، وأعطوا حقّ فسخ العقد، وأعطي أصحاب الحوانيت حقّ الرّجوع بأجرة الكراء على السلطان صاحب القرار القاهر، فبان أنّ الفقهاء توجّهوا إلى السبب في حرمان أصحاب الحوانيت من كراء حوانيتهم، أي إلى صاحب السلطان القاهر، سواء كان حرمانهم بحقّ أو بغير حقّ، وحمّلوه تبعة قراره، وألزموه أجرة الحوانيت لأصحابها؛ لأنّه لا ضرر ولا ضرار، وهكذا فهم علماؤنا كيفية تنزيل مقاصد الشرع في العدل بين النّاس. 
وإلاّ فأيّ قياس هذا الذّي يبيح للإنسان أن يدفع ما يراه ظلما مسلطا عليه بارتكاب كبيرة من الكبائر، عوض أن يتوجّه إلى من يراه ظالما له يطالبه برفع ظلمه عنه بما يحفظ له حقّه. 
وفي المقابل لا بدّ من القول بأنّه لا يحقّ للمدين أن يتأخّر عن دفع الأقساط المتعلّقة في ذمّته لفائدة البنك، بل يحرم عليه ذلك، ولا يجوز له أن يتّكئ على قرار الحكومة ليؤجّل دفع المتخلّد في ذمّته في الأجل المتّفق عليه، فإن فعل فقد دخل في قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: "مطل الغنيّ ظلم"(مالك والبخاري ومسلم)، والمطل الامتناع عن قضاء ما استحقّ أداؤه، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: "ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته"(النسائي)، ومعنى "ليّ الواجد" أي مطل الغني، وقد شرع النّبيّ ﷺ التشهير بالمماطل وعقوبته، وقد أوصل الفقهاء عقوبته إلى السّجن حتّى يؤدّي ما عليه.
ولم يجز الشرع بأيّ حال من الأحوال عقوبة المماطل بالمال؛ لأنّ العقوبة بالمال بسبب تأخير المدين عن سداد ما عليه من الدين هي الرّبا المحرّم بعينه، بنصّ القرآن الكريم، وهذا النصّ دليل خاصّ يخصّص عمومات نصوص أخرى قرآنية وحديثية، كعموم عقوبة المماطل الوارد في الحديث النّبوي الشريف، والواجب أن يُعمل الخاصّ في محلّه وهو تحريم الرّبا، ويُعمل العام الوارد في العقوبة فيما عدا العقوبة بالمال، إذا لم يوجد خاصّ آخر يخصّصه من جهة أخرى.
وهذه المسألة ما كانت لتطرح لجلاء نصوصها ووضوح قواعدها، وهي ليست ممّا ترجع إلى اجتهاد الفقهاء، وإنّما تدلّ عليها نصوص الشرع الصّريحة بنفسها، وهي ممّا اعتبرت من المعلوم من الديّن بالضّرورة، وإلاّ ما هو الرّبا الذّي جاء الشرع بتحريمه، إذا لم تكن هذه المسألة هي صميم الرّبا، ربا الجاهلية. والله أعلم.
الحبيب بن طاهر
19 ماي 2020 م الموافق لـ: 26 رمضان 1441 هـ


تعليقات

التنقل السريع