القائمة الرئيسية

الصفحات

والتهجد في جزء من الليل قربة يبعث عند الله مقاما محمودا، ونبّهت السّنة على أنّ مِن جزاء القيام في ليالي رمضان غفرانا يمحو الذّنوب السّالفة، قال صلى الله عليه وسلم: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه"، وظاهر الحديث: أنّ هذا الغفران المترتّب على قيام رمضان، يأتي على الذّنوب السّالفة جميعا فيسقطها، ولكن أهل العلم قصروه على صغائر الذنوب دون كبائرها، ورأوا أن فضل العمل الصالح لا يبلغ أن يسقط الكبائر من المعاصي، وصاحبها لم يتب عنها، أو لم تقم عليه العقوبة المقررة على من يرتكبها. يقولون هذا، وهم يسلّمون أن لمشيئة الله تعالى سلطانا قد يفعل في كبائر الذنوب ما تفعله التوبة الخالصة أو إقامة الحدود. وممّا استندوا إليه في تقييد المغفرة في هذا الحديث بصغائر الذنوب: أحاديث وردت في فضل أعمال أخرى، وقيدت فيها بمغفرة الذنوب باجتناب كبائرها. وكان صلّى الله عليه وسلم يتهجّد في ليالي السّنة بأسرها، وورد في الصحيح: أنّه خرج في إحدى ليالي رمضان من جوف اللّيل، فصلّى في المسجد، وصلّى رجال بصلاته، جرى هذا ثلاث ليال، ولم يخرج في الليلة الرابعة، وقد ضاق المسجد على الحاضرين حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر، أقبل على النّاس، ثم قال: "أما بعد: فإنه لم يخف علي مكانكم، ولكني خشيت أن تفترض عليكم، فتعجزوا عنها" (صحيح الإمام البخاري). والخوف من افتراض هذه الصلاة قد يكون من جهة أنّ الله تعالى جعلها في حقّهم من الأمور المندوب إليها، ولم يأمرهم بفعلها في جماعة على نحو الصّلوات المفروضة، رفقا بهم، فإذا تظاهروا بالقوة عليها، وساروا بها سيرة ما افترضه الله عليهم من الصلوات، كانوا قد شدّدوا على أنفسهم في أمر جعل الله لهم فيه يسرا. فمن المحتمل أن يكون ما أخذوا به أنفسهم من الشدة سببا لأن ينزل الوحي بفرض هذه الصّلاة؛ ابتلاء لهم حتى يظهر عجزهم عن إقامتها، ويدركوا العسر الذي راعاه الشارع في عدم إيجابها، والتأكيد في الاجتماع لها، ومتى كان القصد من فرضها تنبيههم لوجه الرفق بهم في عدم فرضها أولا، لم يلزم استمرار هذا الفرض حتى يقال: كيف يأمر الشارع الناس بما يعجزون عن المداومة عليه؟ وقد رأينا الشارع يسنّ أحكاما لمقاصد سامية، حتى إذا أحسّ الناس بما فيها من عسر، عاد إلى ما يقتضيه أصل التشريع من الرفق والتيسير، فالنبي صلى الله عليه وسلم قصد بعدم خروجه لصلاة التراويح في المسجد قطع أمر من المحتمل أن يكون وسيلة لتكليف يثقل عليهم القيام به، ويظهر عجزهم عنه. وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن النّاس يجتمعون في صلاة القيام برمضان على إمام واحد، وبقوا على هذا الحال إلى عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فأقام أبيّ بن كعب إماما لهذه الصلاة، وجمع النّاس على الإئتمام به. قال عبد الرحمن القاري: "خرجت مع عمر بن خطاب - رضي الله عنه - ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلّي الرّجل لنفسه، ويصلّي الرّجل فيصلّي بصلاته الرهط، فقال عمر: إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد، لكان أمثل، ثم عزم فجعلهم على أبي بن كعب، ثم خرجتُ معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم. قال عمر: نعم البدعة هذه" (صحيح الإمام البخاري). فالذي فعله عمر بن الخطاب إنّما هو جمع النّاس على إمام واحد بعد أن كانوا يصلّونها فرادى وجماعات في المسجد متفرقة، فعل هذا؛ لأنّ الأمر الذي ترك من أجله رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إقامتها في المسجد في جماعة، وهو خوف الافتراض، قد انقطع بالوحي، فعمر بن الخطاب استند فيما فعل إلى عمل النّبي - صلى الله عليه وسلم -، مع تحقيق النّظر في الوجه الذي كان النّبي - صلى الله عليه وسلم - قد تركها من أجله، وأراد بالبدعة: هيئة اجتماع النّاس على إمام واحد، وسمّاها بدعة؛ تشبيها لها بعد أن تركت سنين، بما أحدث على غير مثال سابق.
 الإمام الأكبر محمّد الخضر حسين التّونسي مجلة "الهداية الإِسلامية"

L’image contient peut-être : 1 personne, texte

تعليقات

التنقل السريع