القائمة الرئيسية

الصفحات

مسألة ختان الإناث وما وماهو محكم الكتب الفقهية فيها

حول محكم كتب الفقه ومتشابهها، ومسألة ختان الإناث

الحمد لله. مما تعلمناه من طريقة شيخنا ومولانا العلامة الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف ومفتي الديار الأسبق، في تناوله لمسائل الفقه والفتوى: التمييز بين محكم الكتب الفقهية ومتشابهها؛ ومِن متشابهها المسائل التي اشتبه فيها الحكم على الفقهاء ولم يرجعوا فيه لأهل الذكر وتكلموا عنه بقوة فكرهم على غير قاعدة الكلام عنه، أو رجعوا فيه إلى أهل الذكر في زمانهم ولكن صار القول به في زماننا على خلاف ما يشهد به الحس. وأعني بأهل الذكر هنا أصحاب الاختصاص في المسائل مشتركة الاختصاص بين السادة الفقهاء وغيرهم من أهل الطب أو الفلك أو غيرها من الفنون.

وممن أدرك ذلك من علماء المتأخرين الإمام محمد أنور شاه الكشميري الحنفي رحمه الله ونفعنا به، وقد نصَّ في غير موضع من «فيض الباري شرح صحيح البخاري» على أنه «كان ينبغي للفقهاء أن يرجعوا إلى الأطباء‏ في مثل هذه الأمور، فإن لكل فن رجالًا».

وممن أدركه أيضًا العلامة الكبير شهاب الدين أحمد بك الحسيني الشافعي الأزهري، المتوفى عام 1332 هـ الموافق لعام 1914 م، وهو من الآخذين عن الإمام الأكبر عبد الرحمن الشربيني، رحمه الله ورضي عنه، شيخ الجامع الأزهر الشريف. قال العلامة أحمد بك الحسيني رحمه الله في كتابه النفيس «الدرة في بيان حكم الجرة وحكم القيء والمرة» المطبوع سنة (1331هـ) وعن نسخته الأصلية أنقل، وهو ينعى على بعض علماء وفقهاء عصره طريقة تناولهم لكتب الفقه ومسائلها، وقد اعترضوا على ما ذهب إليه في حكم الجرة والقيء ونحوهما:
«ويا ليتهم بينوا وجه الانتقاد أو الاعتراض، بل قصارى أمرهم وغاية مراهم أن ما أكتبه مخالف لما فهمه المتأخرون، وإن جئت بالأحكام من أصولها وبالمسائل من نصوصها وفصولها ولم أتقوَّل على واحد غير ما قال، بل عزوت كل قول إلى قائله وبيَّنت بطلان ما خالفه بالآدلة والعقلية والنقلية، ولو كان أصحاب هذه المؤلفات أحياءًا لاعترفوا بالحق الصراح كما هو الظن بهم، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
فإن قلتَ: إن مثلك في الفقه ليس له في الغير ولا في النفير، وإنك لست من أهل الاجتهاد ولا من أهل الترجيح والاعتماد، ولا من أهل الفتيا، ولا من أهل التصحيح، فكيف تقول بحكم اتفق الأصحاب على نقيضه، وتدعي أنهم جميعًا وقعوا في الاشتباه، وتلك دعوى لا يجرأ عليها مَن سبقك بالمئين من السنين، وقد نصَّ العلماء على عدم جواز مخالفة أهل الترجيح، فما بالك بمَن فوقهم؟
قلت: نعم الأمر كما قلت في جميع ما ذكرت غير أنك لم تميّز بين ما هو من حدود المجتهد ومَن بعده من أصحاب الوجوه وأهل الترجيح وغيرهم، وبين ما هو هم وغيرهم فيه سواء، وبين ما هو غيرهم مقدَّم عليهم فيه.
وذلك أن أحكام النوازل والحوادث الجزئية تبنى على الأدلة النقلية أو العقلية، فالفقيه يبحث في الدليل من جهة أنه قاطع أو ليس بقاطع، وعن ثبوته وعدم ثبوته، وعن عمومه وخصوصه، ومنطوقه ومفهومه، وكونه نساخًا أو منسوخًا، وغير ذلك مما هو معلوم وتختلف في المدارك، فمثل ذلك يقدّم فيه المجتهد ومَن والاه على غيره من الناس، ويلزم في ثبوت الدليل ما لا يلزم في غيره.
أما الحوادث من جهة وقوعها وثبوتها وتكيفها، فالفقيه وغيره فيها سواء، وربما كان غيره ممن له خبر خاص بثبوتها أو بنفيها مقدَّمًا على الفقه أو المجتهد. مثال ذلك أننا لو فرضنا أنه روي إلينا حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن شأن الفقيه أن يبحث عن ذلك الحديث، وعن ثبوته وعدالة رجاله ورفعه وصحته، وغير ذلك، ليعمل به، سواء في منطوقه ومفهومه، وكونه ناسخًا أو منسوخًا، وغير ذلك.
أما الحوادث الجزئية من جهة ثبوتها وصدق الخبر فيها فلا يشترط فيها شيء من ذلك. فلو فرضنا أن صبيًا أو فاسقًا أخبر الفقيه وغيره أن هذا الماء القليل ولغ فيه الكلب، فمَن صدَّق ذلك الخبر حكم بنجاسة الماء، ومَن لم يصدقه استصحب الأصل في طهارته، يستوي الحال في ذلك بين الفقيه وغيره من عامي وأمي، لا يُقدم واحد منهما على الآخر. فلو فرضنا أن الفقيه صدَّق الخبر وأذعن به كان حتمًا عليه أن يحكم بنجاسة الماء المذكور، والأمي إذا لم يصدق الخبر جاز له رفع الحدث والخبث بذلك الماء، ولا ينكر عليه الفقيه ذلك. ولو أبصر الفقيه على ثوبه شيئًا اعتقده دمًا حكم بتنجس ثوبه، ولا يجوز أن يصلي فيه ما دام متنجسًا، فإن جاء شخص يعرف طبيعة الدم ويميزها من غيرها، وبيَّن أن ذلك الشيء ليس دمًا، قُدم بيان ذلك العارف بطبيعة الدم على معتقد الفقيه، وصح أن يكون ناقضًا لحكمه، لأنه مبني على اعتقاد له في ثبوت تلك الجزئية. وما كان كذلك لا يشترط فيه ما يشترط في ثبوت الدليل...» انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
وللعلامة أحمد بك الحسيني رحمه الله تعالى تقريرات أخرى نفيسه، منها ما يتعلق بمفهوم المعتمد عند المتأخرين، وخطأ حصره على سبيل المثال عند الشافعية في أقوال الإمامين ابن حجر والرملي. وأرى أن كتابه مما تتعيَّن دراسته على المتفقين من أهل زماننا.
وسبب حديثي عن التمييز بين محكم الكتب الفقهية ومتشابهها ما وجدته الأيام الماضية من جدل واسع بخصوص حكم ختان الإناث، أثاره البعض اعتراضًا على الكلمة التي ألقاها شيخنا حرس الله مهجته تحت قبة البرمان المصري في شأن تلك المسألة، وأذكر هنا في ضوء ما سبق لي نقله من كلام العلامة أحمد الحسيني رحمه الله نقاطًا مختصرة، هي كالمفاتيح للمسألة، وأختم بتنبيه ثم بوصية.
فأما النقاط، فهي:
(1) لفظ الختان يطلق في حق الإناث تغليبًا، وإنما يقال في حقهن: الخفاض.
(2) الخفاض في المذهب الحنفي، ليس واجبًا، ولا سنةً، وإنما هو مكرمة، ومعنى كونه مكرمةً، أي: مكرمةً للرجال، قالوا: لأنه ألذ في الجماع. فقولهم (مكرمة للرجال) يعني أن المرأة تكرم زوجها به؛ فهو داخل في معنى تزيُّن المرأة لزوجها.
(3) يتحصل من فقه الأحناف أن الخفاض في أصله مباح وأنه ليس أمرًا تعبديًا.
(4) يتحصل من فقه الأحناف أنه لا يصح في وجوب أو استحباب الخفاض دليل شرعي؛ وإنما هو أمر يعود إلى العادة والطب؛ وعليه، فإذا تغيرت العادة أو الرأي الطبي، فالحكم تبعٌ لذلك في فقه الحنفية.
(5) يتحصل من فقه الأحناف أن الخفاض المفهوم لديهم يعزز الشهوة عند المرأة وقت الجماع. فهو في أصله مباح، وإنما رُغِّب فيه فقالوا: «مكرمة» لتحقيق ألفة ومتعة للزوجين، وعليه فكل صورة من صور خفاض (ختان) المرأة تناقض ذلك المعنى فهي خارجة عمّا ورد في كتبهم، ولا يقال عنها أنها مباحة لمجرد اشتراكها مع الخفاض المذكور لديهم، لأنه اشتراك في الاسم لا المعنى.
(6) يتحصل من فقه الأحناف أن الخفاض لا علاقة له بقضية عفة المرأة، ولا بفكرة حماية المرأة من الوقوع في الحرام، ولا بفهوم أن المرأة التي "اختتنت" أبعد عن الوقوع في الحرام.
(7) يفهم من فقه الأحناف أن الخفاض ليس له سن معيَّن، وإنما تفعله المرأة المتزوجة دون غيرها، لأنه مما يكرم به الزوج، فحيث لا زوج يكرم به، فلا داعي لفعله، خصوصًا وأن الإمام أبا حنيفة رحمه الله توقّف في توقيت الختان للرجال، فلم يعيّن له وقتًا، مع أنه وردت النصوص فيه، فكيف بخفاض المرأة ولم يرد فيه نصٌ صحيحٌ (كما هو المذهب عند الحنفية). وبالتالي، لا يحرص على، ولا يطلب، إجراء الخفاض للصغيرات.
(8) وصف الخفاض المذكور في كتب الفقه هو أقرب ما يكون للعملية التجميلية التي تجرى في بعض عيادات ومراكز الجراحات التجميلية في الغرب وتسمى: Clitoral hood reduction، ويذكر في الصفحات الرسمية لتلك المراكز أن من أسباب إجراء العملية طلب تعزيز الشهوة الجنسية، كما يذكر أن العملية تجرى غالبًا بتخدير كامل، وأنه قد يحصل مع تلك العملية مضاعفات، ربما تصل في بعض الحالات النادرة إلى الوفاة. وأقل ثمن وقفت عليه لإجراء تلك العملية في الولايات المتحدة هو(2,500) دولار، وأعلى ثمن وقفت عليه هو (17,000) دولار. وقد أصدرت الكلية الأمريكية لعلم التوليد والأطباء النسائيين تقريرًا في يناير من العام الماضي يقول أن عمليات تجميل العضو التناسلي للمراة - وذكروا منها عملية الحد من الغطاء Clitoral Hood Reduction - ليس لها دافع طبي، وتشكل خطرًا كبيرًا، ولم تثبت سلامتها وفعاليتها. وعليه، راجع النقطة رقم (4). ويمكن مطالعة التقرير من خلال هذا الرابط: https://bit.ly/3sIDCxg
(9) لما كان الخفاض عند الأحناف مباحًا، كان للحاكم تقييده، لأن للحاكم سلطة تقييد المباح، لا سيما إذا صار ذريعةً إلى ضرر عريض. فكيف وقد يقول الفقيه الحنفي المعاصر أن حكم الخفاض بناءًا على مر ذكره في النقطة السابقة هو الكراهة التحريمية على أقل تقدير؟! وقال الفقهاء أنه يستحب للحاكم أن يمنع من المكروه لما فيه من المصلحة العامة، وهذا في حق المكروه التنزيهي، فمن باب أولى التحريمي.
(10) ما يسمى «ختانًا» للبنات ويفعله الناس، كما في صعيد مصر، أو في السودان مثلًا، وربما يفرقون بين نوعين منه، أحدهما يسمى: ختانًا فرعونيًا، والآخر: ختانًا سنيًا، كلاهما مما يستوجب الدية، لأنه اعتداء على جسد البنت أو المرأة؛ ولا علاقة له بفقه المذاهب الأربعة.
فهذه عشرة كاملة. أرجو من طلاب العلم قراءتها بدقة والتفكر فيها قبل التعليق بالموافقة أو المخالفة. وهي مبنية في جملتها على فقه ساداتنا الحنفية، بحكم دراسة الفقير للمذهب الحنفي، وقول شيخنا أيده الله تعالى يوافق مذهبهم من جهة أن الخفاض عندهم ليس شرعيًا أو تعبديًا، وإنما هو أمر يرجع إلى العادة والطب.
وأما التنبيه، فهو: أن كلام بعض الفقهاء، كالإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، ممن ذهبوا إلى أن لخفاض المرأة أصل شرعي، كان نظره في النصوص محفوفًا بتصوره الخاص لطبيعة الخفاض وأثره، وليس نظرًا استنباطيًا محضًا مبنيًا على صحة الأسانيد، وفهم اللغة، وإعمال قواعد الاستدلال، وحسب؛ ويفهم ذلك من جواب الإمام أحمد عند سؤال محمد بن يحيى الكحال له. قال الخلال: «وأخبرني محمد بن يحيى الكحال، قال: سألت أبا عبد الله عن المرأة تختتن؟ فقال: قد خرجت فيه أشياء. ثم قال: فنظرتُ، فإذا خبر النبي صلى الله عليه وسلم حين يلتقي الختانان، ولا يكون واحدًا، إنما هو اثنان. قلتُ لأبي عبد الله: فلا بد منه. قال: الرجل أشد، وذلك أن الرجل إذا لم يختتن فتلك الجلدة مدلاة على الكمرة فلا يبقى مأثم والنساء أهون». 
وكأن الإمام أحمد يقول: كلاهما عندي بالنسبة إلى النص وحده سواء، ولكن بالنظر إلى الواقع لا يستويان. فإدراك الإمام أحمد للواقع أثمر لديه تفاوتًا بين درجة تعلق الحكم بالرجل ودرجة تعلقه بالمراة، وإن كان النص من حيث هو هو لا يفيد عنده ذلك التفاوت. وهذه المسالة، أعني: مسألة مدخلية تصور الواقع في فهم الفقهاء للنصوص الشرعية، مسألة دقيقة صعبة، ولا بد أن تفرد لها دراسة استقصائية عميقة، وأردت هنا الإشارة إليها فقط.
والوصية - وما كنت أحب أن أقولها: اتركوا النساء وشأنهن، وارفعوا أقلامكم عن الكتابة في قضايا المرأة وفقهها، ولا تعودوا إليها حتى تتبينوا واقعها في زماننا وشأنها في ديننا.
والله الهادي، لا رب سواه.
الشيخ/ أحمد الأزهري

الشيخ/ أحمد الأزهري

تعليقات

التنقل السريع