القائمة الرئيسية

الصفحات

العلّامة عثمان بن المكي التوزري الزبيدي التونسي

 اعلام الزيتونة

العلّامة عثمان بن المكي التوزري الزبيدي التونسي

 

وإذا ذكرت توزر حضر الرسوخ في العلم مع الثبات على الأمر.

فالبيئة الثقافية بتوزر كما تحدث عنها الشاعر بلقاسم بن عمار الشابي في كتابه الذي حاول الكشف عن بعض ملامحها ما بين سنتي 1845-1905م أي فترة الجيلين السابقين للشابي، أنجبت العديد من الأدباء والشعراء الذين ساهموا بقسطهم الوافر في إثراء الساحة العلمية آنذاك منهم: محمد الطاهر البخاري التوزري ومحمد الأمين بوعلاّق ويوسف بن عون الزبيدي وسليمان بوعلاّق والشيخ الزين الجموعي ومحمد الصالح بن بورقعة الشابي ومحمد الطاهر بن عثمان ميّة وعثمان بن المكّي وابنه محمد الهاشمي المكّي والشيخ القاضي محمد الشابي والد شاعر الخضراء أبي القاسم ومحمد المبارك المازق وأبو بكر بن محمد المولدي الشريف وابنه محمد الميداني وعمار المجوري الشابي وعامر بن محمد الصالح الشابي وأحمد الحرشاني وابراهيم بوعلاّق وأبو ثامر عامر بن محمد الصالح بن بورقعة الشابي ويوسف بن عون الزبيدي وابراهيم البختري وشيخنا محمدالسويسي العباسي التوزري، وشيخنا العلامة الحافظ محي الدين قادي.. وقبل هؤلاء جميعا الشيخ المكي بن عزوز وابن أخته محمد الخضر حسين الذي تلقى علم اللغة عن أمه وخالته والتاريخ يعجز عن إحصاء علماء توزر.

بيئة زخرت بالإبداع بين توزر ونفطة وليس بينهما إلا أربع وعشرون كلم وكانت بلدة نفطة موطن العلم والعلماء، حتى إنها كانت تلقب بالكوفة الصغرى.

زرع استوى بأعلام ذكر التاريخ بعضهم؛ منهم الفقيه الأديب عبد الله بن زكرياء يحيى ابن علي الشقراطسي صاحب قصيدة الشقراطسية الشهيرة في مدح الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، واللغوي الفقيه أبو الفضل بن النحوي التوزري الذي اشتهر بقصيدة المنفرجة، والفقيه الأديب المؤرخ ابن الكردبوس صاحب كتاب الاكتفاء في أخبار الخلفاء، والقاضي أبو بكر التقيوسي، والفقيه المتكلم أبو علي النفطي السّنّيّ، و الفقيه الشاعر المؤرخ مهندس تقسيم مياه توزر ونفطة وقابس محمد بن علي بن محمد بن عمر بن الشبّاط وغيرهم.

ولد الشيخ الصراط بتوزر عام 1266هـ وإثر وفاة والده وهو صغير اشتغل بالتجارة بين الجريد والجزائر.

تلقى العلم عن جماعة من أعلام بلاده منهم : عمر بن عثمان النبطي، والعلامة سيدي عمر بن عمارة الشريف النبطي رحمهم الله.

ودرس في زاوية الشيخ مصطفى بن عزوز حيث وجد الشيخ المكي بن عزوز الذي أحلّه المحلّ اللّائق به، وخرّيج هذه الزاوية كان متشبّعا بالعلوم مع تحصيل الملكة لذلك عاد إلى توزر وتصدى للتدريس فالتفّ حوله خلق كثير.

ثم انتقل إلى تونس لمواصلة تعليمه في جامع الزيتونة فسكن في مدرسة بئر الحجار وتتلمذ لكبار شيوخ العصر. وعاد إلى مسقط رأسه حيث عُيِّن قاضيا شرعيّا إلى أن أعفي منها بعد دخول الاحتلال الفرنسي بمدة قليلة ، وذلك أن الشيخ التوزري كما روى محفوظ كان بالمحكمة فأتوه بضابط فرنسي شابّ يشهدون عليه بالزّنا ، ويطلبون تنفيذ الحكم الشرعيّ فيه ، وبعد التحرّي أذن القاضي بإقامة الحدّ على الشّابّ الفرنسي جلدًا في ساحة المحكمة ، ونُفِّذَ الأمر في حينه.

ما إن علمت السلطات الفرنسية بالحادثة حتى عزمت على القبض على القاضي الذي أهان أحد أبنائها وألحق به الأذى. وأدرك الشيخ التوزري خطورة الموقف حيث علم أن القوم يأتمرون به، فترك المحكمة ورجع إلى أهله مسرعًا فتجهّز وسافر إلى العاصمة.

وفي تونس قصد منزل شيخه ورئيسه قاضي الجماعة آنذاك الشيخ محمد الطاهر النيفر ، الذي رحّب به وسأله عن سبب قدومه ، فقصّ عليه الحادثة التي وقعت له ببلدته ، وطلب منه بذل الجهد لإنقاذه من هذه الورطة ، فوعده خيرًا.

ثم توسط له لدى الباي الذي عمل من ناحيته على مساعدة الشيخ التوزري وتخليصه من هذه المشكلة ، فسُوِّيَت القضية وتُنُوسِيَت ، ولكن ملفّه احلولك لدى مصالح الاحتلال الفرنسي بعد ذلك ، وكانت لها آثار سلبية نسبيًا على مستقبل حياته.

لم يجد الشيخ عثمان وظيفة ثابتة يرتزق بها وبقي مدّة عاطلًا عن العمل ثم اشتغل بالإشهاد العدلي ككثير من العلماء، ثمّ سُمِّي بعد ذلك مدرسًا بالمدرسة الأندلسية إلى أن تم تعيينه مدرِّسًا بجامع الزيتونة بوساطة من شيخه النيفر، فتولى وظيفة التدريس بكل جد، وعكف قرابة الأربعين عامًا على تعليم الطلبة وتكوين الاجيال حتى لُقِّب بالشيخ الصّراط كما أخبرني شيخي محمد بن منصور الهمامي وقد سلّمني من مكتبته كتاب المسكة الفائحة في الأعمال الصالحة في طبعته الثانية 1342هـ، وذلك أنّه ما من طالب بالزيتونة إلا ويمرّ بطريقته، خاصة وأنّه لم يجد حظّه من الترقيات التي تحصل عادة لمشايخ التدريس بسبب مواقفه النقدية وجرأته في الحق التي طالت بعض أهل الصدارة من الشيوخ بل حتى لجنة امتحان الترقية بمحضرها، فلم يرتق إلى الطبقة الأولى إلا بعد 16 سنة كاملة.

أحبّه الطلبة لأنه يعرض درسه بأسلوب سهل ، يبسط القواعد ويقرّبها إلى جميع الأفهام ويدنيها إلى كافة المستويات ، مع غاية المواظبة والمحافظة على الوقت والاعتناء بتحقيق المسائل.

مع تخلّل الدرس بالنّكت والمُلح والطرائف المفيدة في اعتداد بالنفس، بل وشدة في انتقاد زملائه من البلدية فتجده يُعرّض في دروسه بدعاوى بعضهم وأحيانا يصرّح، ويتحكّك بمواقفهم حتى في مؤلّفاته، وهي جُرْءة يعشقها الشّباب المتحمّس.

ومن هذه المواقف ما سطره في "المسكة الفائحة" من تلميح لولاة الأمور في قبول الشهادة برؤية هلال رمضان فقال معرضا بمؤسسة القضاء في التساهل في تزكية الشهود: "... فقد لعبت بنا فسقة الشهود بشهاداتهم برؤية الشهر في السنين الماضية وإنّ التّساهل في نقل الشهادة لا زال موجودا من حيث التزكية، وحيث قلّت الديانة فلا بد من استكثار الشهود في محلّ الرؤية لتذهب الريبة"، وقال منتقدا كفاءة رجال مؤسسة الإفتاء في الحكم بطلاق من حلف بالحرام أو بالطلاق أو باللازمة: "اعلم وفقني الله وإيّاك أنّ الفتوى بقطرنا الآن صارت اسما فقط..."

وكذلك ما ذكره في مقدمة كتابه "شرح التّحفة" عند ردّه على بعض مَن تعرضُّوا لكتابه بالنّقد والتّجريح فقال: "... ولا علينا فيما يتقوّله اللئيم الحسود ، فكان من الواجب على مَن استنقصه وازدرى به من أهل الفخفخة الفارغة أن يأتي بأحسن منه لينتفع به النّاس ، فهذا القلم والدواة والقرطاس . يا أهل السقائف الغمّازين الهمّازين ، هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين؟ وإني على يقين بأنني لست من الكاملين ، وأنه لا ينجو أحد من الخطأ والزّلل إلا من عصمه الله عزّ وجلَّ".

ومن ردوده المقذعة ما استهلّ به كتابه "المرآة" في طبعته الثانية واصفا منتقده بأنه إنسان مجهول وجاهل عديم المعرفته بفن المنطق وغيره، قوله: "... فالتلبيس على العامّة بتلك التلبيسات لا يلبث ، إذ صاحبه كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث".

وبمثل هذه الشدة تصدّى الشيخ الصراط لنقد تجاوزات إدارة تعليم بالجامع الأعظم التي لم تنصفه، فتراه يختم درسه عادة بمحلّ شاهد لا يخلو من نبز وتهكّم وتعريض بأعضاء لجنة المناظرة، فبقي مدرسًا في الطبقة الصغرى سنوات عديدة ، حتى أن بعض تلاميذه ممن درسوا عليه المراحل الأولى في التعليم شاركوه في مناظرة التدريس من الطبقة الأولى ، فنجحوا وأخفق وتكرّر هذا الموقف عدة مرات على مدى سنين متطاولة حتى أيقن الشيخ أنه لن ينجح في هاته المناظرة. ولم ينجح مدرسًا من الطبقة الأولى إلا في المرحلة الاخيرة من حياته وبتدخل من محمد الحبيب باي. وهو ما وقع لكثير من الآفاقيين كالعلامة معاوية التميمي والشيخ محمود بوعزيز وغيرهم ممّن يتقدمهم البلديّة لبلديتهم لا لكفاءتهم.

وقد عبّر عن إحساسه بالغبن والظلم خاصة في رسالة "المرآة" التي عقد في خاتمتها فصلًا عن الظلم وسوء عواقبه .

تميّز الشيخ التوزري من بين أقرانه من مشايخ الزيتونة بأنه صاحب تآليف كثيرة كثُلّة من أبناء توزر

وهي مؤلفات ورسائل هامة؛ في مجالات اللغة والحديث والفقه.

وكان الشيخ يحرص بشدة على طبع كتاباته بالرغم من الظروف الصعبة القائمة أمام الطبع في ذلكم العهد ، وكان ابنه الهاشمي الصحفي التونسي المعروف لا يبخل عليه بالعون المالي المطلوب لإتمام لوازم الطبع.

وقد لقِيَت مصنفاته في أوساط الطلبة قبولا في حياته وبعد وفاته، وطبع بعضها أكثر من مرّة ، ولعل نقدها وانتقادها من بعض منافسيه عرّف بها وسهّل رواجها.

من مؤلفاته :

1ـ التسهيل والبيان على شواهد العلّامة المكّودي عبد الرحمن : شرح فيه شواهد المكّودي شارح ألفية بن مالك في النحو.

2ـ التمرين على سلّم علم البيان للمبتدئين والصبيان وهو في علم البلاغة.

3ـ الجواهر السنيّة على السمرقندية : في الاستعارت لعلم البلاغة .

4ـ الجواهر والدرر على خطبة المختصر شرح فيه مقدمة مختصر خليل.

5ـ الدرر السنيّة في المبادئ النحوية.

6ـ الحلل على نظم المجرادية في الجمل وضّح فيه قواعد إعراب الجمل .

7ـ معالم الإهتداء في شرح شواهد قطر الندى : في النحو ، وقد طبع بتونس ثمّ بالقاهرة.

8ـ السراج المنير على إيساغوجي، في علم المنطق .

9ـ الكواكب الدّرّية في أحاديث خير البرية انتخب فيه أحاديث من الجامع الصغير للسيوطي.

10ـ القلائد العنبرية في شرح البيقونية وهو في علم مصطلح الحديث، وقد حقّقه وعلق عليه الدكتور نور الدين الجلاصي.

11ـ الهداية لأهل البداية وهو في الفقه، في جزأين.

12ـ توضيح الأحكام على تحفة الحكام لابن عاصم في فقه القضاء، وطُبِع في أربعة أجزاء.

13ـ المِسكة الفائحة في الأعمال الصالحة وهو في فقه العبادات على طريقة السؤال والجواب، حقّقه الشيخان فوزي بن نتيشة ومحمد اللجمي.

14ـ المرآة لإظهار الضلالات انتقد فيه المحدثات والبدع الرائجة في المجتمع وقد حققه الدكتور مختار الجبالي.

15ـ النبراس لرفع الالتباس على من كان من أشباه الناس في نازلة نكاح التيّاس ألّفها سنة1328هـ وهي مخطوطة في مكتبة الأستاذ محمد الطيب بسيس كما ذكر محفوظ في تراجم المؤلفين التونسيين.

تزوّج من ثلاث نساء وأنجب خمسة أولاد وبنتين. وعُرِف بصلاحه وورعه ، وكان رحمه الله مستجاب الدعاء.

وطال عمره حتى نيّف عن التسعين عامًا ، وتُوُفّي يوم الاثنين 20 صفر 1350 هـ ، الموافق ل6 جويلية 1931م.

ودُفِن بالجلّاز في جنازة مشهودة رغم شدة الحرّ حضرها الكثير من طلبة العلم والمشائخ والأعيان .

ورثاه بلديُّه إبراهيم بن سالم التوزري بقصيدة جاء فيها :

مضـــى في سبيل الله علّامة القطر *** قفــا نبك كالخنساء دومًا على صخر

لِفَقدِ عزيـــــــــز كان في البِرّ آية *** وفي العلم والمعروف حدّث عن البحر

منــار الهدى من توزر كان نوره *** إلــــــــــــى تونس منه ككوكب درّيّ

مضى المُرتضى فخر الجريد فأصبحت *** كَعُوب المعالي بعد فقدانه تجري

رحمه الله تعالى رحمة واسعة وجمعنا به في الفردوس الأعلى من الجنة.

بقلم الدكتور زهير جندوبي




 

 

تعليقات

التنقل السريع