القائمة الرئيسية

الصفحات

 بسم الله الرحمن الرحيم و صلّى الله على سيّدنا و مولانا محمّد و على آله و صحبه أجمعين


تفصيل في وجوب محبة الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم (من الإيمان الواجب)
 
من عقائد أهل السنة والجماعة وجوب محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم وتوقيرهم وتكريمهم والاحتجاج بإجماعهم والاقتداء بهم، والأخذ بآثارهم، وحرمة بغض أحد منهم لما شرفهم الله به من صحبة رسوله صلى الله عليه وسلم والجهاد معه لنصرة دين الإسلام، وصبرهم على أذى المشركين والمنافقين، والهجرة عن أوطانهم وأموالهم وتقديم حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك كله، وقد دلت النصوص الكثيرة على وجوب حب الصحابة رضي الله عنهم جميعاً، وقد فهم أهل السنة والجماعة ما دلت عليه النصوص في هذا واعتقدوا ما تضمنته مما يجب لهم من المحبة على وجه العموم رضي الله عنهم وأرضاهم، ومن تلك النصوص:

(1) قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر: 10].
(هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة لأنه جعل لمن بعدهم حظاً في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، وأن من سبهم أو واحداً منهم أو اعتقد فيه شراً أنه لا حق له في الفيء، روي ذلك عن مالك وغيره، قال مالك: (من كان يبغض أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ الآية) .

(2) روى الترمذي بإسناده إلى عبد الله بن مغفل المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه)) .

تضمن هذا الحديث الحث لكل إنسان يأتي بعد الصحابة في أن يحفظ حقهم، والمعنى: لا تنقصوا من حقهم ولا تسبوهم، بل عظموهم ووقروهم، ولا تتخذوهم هدفاً ترمونهم بقبيح الكلام، كما يرمى الهدف بالسهم، وبين عليه الصلاة والسلام أن حبهم ما استقر في قلب إنسان إلا بسبب حبه للنبي صلى الله عليه وسلم، أو بسبب حب النبي صلى الله عليه وسلم إياهم وما وجد بغضهم في قلب إنسان إلا بسبب ما فيه من البغض للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((يوشك أن يأخذه))، أي: يعاقبه في الدنيا أو في الآخرة . فالحديث دل على وجوب حب الصحابة رضي الله عنهم وخطورة بغضهم.
قال المناوي في قوله صلى الله عليه وسلم: ((الله الله في أصحابي)) (أي: اتقوا الله فيهم ولا تلمزوهم بسوء أو اذكروا الله فيهم، وفي تعظيمهم وتوقيرهم، وكرره إيذاناً بمزيد الحث على الكف عن التعرض لهم بمنقص ((فمن أحبهم فبحبي أحبهم)) أي: فبسبب حبهم إياي، أو حبي إياهم، أي: إنما أحبهم لحبهم إياي، أو لحبي إياهم. ((ومن أبغضهم فببغضي)). أي: فبسبب بغضه إياي، ((أبغضهم)) يعني: إنما أبغضهم لبغضه إياي... وخص الوعيد بها لما اطلع عليه مما سيكون بعده من ظهور البدع وإيذاء بعضهم زعماً منهم الحب لبعض آخر، وهذا من باهر معجزاته، وقد كان في حياته حريصاً على حفظهم والشفقة عليهم. أخرج البيهقي عن ابن مسعود: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر)) ، وإن تعرض إليهم ملحد وكفر نعمة قد أنعم الله بها عليهم، فجهل منه وحرمان، وسوء فهم، وقلة إيمان، إذ لو لحقهم نقص لم يبق في الدين ساق قائمة لأنهم النقلة إلينا، فإذا جرح النقلة دخل من الآيات والأحاديث التي بها ذهاب الأنام، وخراب الإسلام إذ لا وحي بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم وعدالة المبلغ شرط لصحة التبليغ) .

(3) وروى الإمام البخاري في (صحيحه) من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)) .
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم هذا: (أن علامات كمال إيمان الإنسان، أو نفس إيمانه حب مؤمني الأوس والخزرج لحسن وفائهم بما عاهدوا الله عليه من إيواء نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره على أعدائه زمن الضعف والعسرة وحسن جواره ورسوخ صداقتهم وخلوص مودتهم ولا يلزم منه ترجيحهم على المهاجرين الذين فارقوا أوطانهم وأهليهم وحرموا أموالهم حباً له وروماً لرضاه... (وآية النفاق) بالمعنى الخاص (بغض الأنصار)، صرح به مع فهمه مما قبله لاقتضاء المقام التأكيد، ولم يقابل الإيمان بالكفر الذي هو ضده، لأن الكلام فيمن ظاهره الإيمان، وباطنه الكفر فميزه عن ذوي الإيمان الحقيقي، فلم يقل آية الكفر لكونه غير كافر ظاهراً، وخص الأنصار بهذه المنقبة العظمى، لما امتازوا به من الفضائل، فكان اختصاصهم بها مظنة الحسد الموجب للبغض، فوجب التحذير من بغضهم والترغيب في حبهم، وأبرز ذلك في هذين التركيبين المفيدين للحصر لأن المبتدأ والخبر فيهما معرفتان، فجعل ذلك آية الإيمان والنفاق على منهج القصر الادعائي، حتى كأنه: لا علامة للإيمان إلا حبهم، وليس حبهم إلا علامته، ولا علامة للنفاق إلا بغضهم، وليس بغضهم إلا علامته، تنويهاً بعظيم فضلهم، وتنبيهاً على كريم فعلهم، وإن كان من شاركهم في المعنى مشاركاً لهم في الفضل كل بقسطه) .

(4) وروى مسلم بإسناده إلى عدي بن ثابت، قال: سمعت البراء يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأنصار: ((لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)).
قال شعبة: (قلت لعدي: سمعته من البراء؟ قال: إياي حدث) .

(5) وروى أيضاً: بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر)) .

(6) وروى الإمام أحمد بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب الأنصار أحبه الله، ومن أبغض الأنصار أبغضه الله)) .

(7) وروى الحافظ الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أحب الأنصار فبحبي أحبهم، ومن أبغض الأنصار فببغضي أبغضهم)) .

( 8) وروى الإمام أحمد بإسناده إلى البراء بن عازب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحب الأنصار إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)) .

(9) وروى الإمام أحمد بإسناده إلى سعد بن عبادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا الحي من الأنصار محنة حبهم إيمان وبغضهم نفاق)) .

(10) وروى أيضاً: بإسناده إلى الحارث بن زياد الساعدي ((أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وهو يبايع الناس على الهجرة فقال: يا رسول الله بايع هذا، قال: ومن هذا، قال: ابن عمي حوط بن يزيد أو يزيد بن حوط، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أبايعك إن الناس يهاجرون إليكم ولا تهاجرون إليهم، والذي نفس محمد صلى الله عليه وسلم بيده لا يحب رجل الأنصار حتى يلقى الله تبارك وتعالى إلا لقي الله – تبارك وتعالى – وهو يحبه، ولا يبغض رجل الأنصار حتى يلقى الله – تبارك وتعالى – إلا لقي الله – تبارك وتعالى – وهو يبغضه)) .

(11) وروى الإمام مسلم بإسناده إلى علي رضي الله عنه أنه قال: ((والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلي أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق)) .
فهذه الأحاديث كلها دلت على وجوب حب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً مهاجرين وأنصار، ولا يقال إن ظاهر لفظها في الأنصار فلا يدخل فيها المهاجرون، بل الصحيح أنه يدخل فيها كل فرد من أفراد الصحابة لتحقق مشترك الإكرام، لما لهم من حسن الغناء في الدين رضي الله عنهم أجمعين.
كما اشتملت على ذكر الجزاء الذي ينتظر من يكن لهم المحبة في قلبه ومن يكن لهم البغض، فمن أحبهم فاز بحب الله له، ومن أبغضهم أبغضه الله، وشتان بين الجزائين، كما دلت على أن القلب الذي امتلأ ببغضهم إنما هو قلب ينضح بالنفاق، خذل صاحبه بعدم الإيمان والعياذ بالله.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى مبيناً المراد في قوله صلى الله عليه وسلم: ((آية المنافق بغض الأنصار، وآية المؤمن حب الأنصار)) ، وفي الرواية الأخرى: ((لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، ومن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)) ، وفي الأخرى: ((لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر)) ، وفي حديث علي رضي الله عنه: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم إلي أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق) .
(الآية: هي العلامة، ومعنى هذه الأحاديث أن من عرف مرتبة الأنصار وما كان منهم في نصرة دين الإسلام والسعي في إظهاره وإيواء المسلمين وقيامهم في مهمات دين الإسلام حق القيام، وحبهم النبي صلى الله عليه وسلم، وحبه إياهم، وبذلهم أموالهم وأنفسهم بين يديه، وقتالهم ومعاداتهم سائر الناس إيثاراً للإسلام، وعرف من علي بن أبي طالب رضي الله عنه قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحب النبي صلى الله عليه وسلم له، وما كان منه في نصرة الإسلام، وسوابقه فيه، ثم أحب الأنصار وعلياً لهذا كان ذلك من دلائل صحة إيمانه، وصدقه في إسلامه لسروره بظهور الإسلام والقيام بما يرضي الله – سبحانه وتعالى – ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أبغضهم كان بضد ذلك، واستدل به على نفاقه وفساد سريرته والله أعلم) .

وقال الذهبي رحمه الله تعالى مبيناً العلة من جعله صلى الله عليه وسلم حب الأنصار علامة الإيمان وبغضهم علامة النفاق حيث قال: (وما ذاك إلا لسابقتهم ومجاهدتهم أعداء الله بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك حب علي رضي الله عنه من الإيمان وبغضه من النفاق، وإنما يعرف فضائل الصحابة رضي الله عنهم من تدبر أحوالهم وسيرهم وآثارهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد موته من المسابقة إلى الإيمان، والمجاهدة للكفار ونشر الدين وإظهار شعائر الإسلام وإعلاء كلمة الله ورسوله وتعليم فرائضه وسننه ولولاهم ما وصل إلينا من الدين أصل ولا فرع ولا علمنا من الفرائض والسنن سنة ولا فرضاً، ولا علمنا من الأحاديث والأخبار شيئاً) .
وقال العيني رحمه الله تعالى شارحاً لقوله صلى الله عليه وسلم: ((آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)) : (المقصود من الحديث الحث على حب الأنصار وبيان فضلهم، لما كان منهم من إعزاز الدين وبذل الأموال والأنفس والإيثار على أنفسهم والإيواء والنصر وغير ذلك، قالوا: وهذا جار في أعيان الصحابة كالخلفاء وبقية العشرة والمهاجرين بل في كل الصحابة إذ كل واحد منهم له سابقة وسالفة وغناء في الدين وأثر حسن فيه، فحبهم لذلك المعنى محض الإيمان وبغضهم محض النفاق ويدل عليه ما روي مرفوعاً في فضل أصحابه كلهم: ((من أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم)) .


الشيخ المقرئ محمد مشفر

الشيخ المقرئ محمد مشفر

تعليقات

التنقل السريع